الكاتب : النهار
التاريخ: ١٠:٤١ م-٢٦ يوليو-٢٠٢٥       8855
بقلم -  د. نجوى الكحلوت
في كل مرة تقع فيها عيناي على الكعبة، يسكنني شعور لا يُشبهه شيء. تذوب الأنا، وتبتهج الروح، وتبدأ رحلة الطمأنينة. ليس ثمة كلمات تشرح كيف ينهمر الدمع بلا استئذان، أو لماذا أشعر أن قلبي وُلد من جديد. الأمر يتجاوز المشهد إلى معنى، ويتعدى الرؤية إلى تجلٍّ إيماني عميق.

في مكة، كل شيء له طعم آخر: السكون، الزحام، حتى التعب يحمل في طياته لذة القرب. كيف لا، وهي الأرض التي شرفها الله، وجعل فيها أول بيت وُضع للناس. هناك، حيث تتقاطع الأرض بالسماء، وتتجلى عظمة الخالق في هذه المنظومة الكونية العجيبة حين ترى الكعبة وهي محاطة بجميع اللغات والأشكال والجنسيات عندها تدرك أنها محاطة بقلوب لا ترجو إلا الله ولا تلهج إلا بالدعاء والابتهال إليه.
في الطواف، ترى جموعًا تدور في سكينة مهيبة، كأنهم كواكب في مدار النور، قلوبهم معلّقة بنظراتهم إلى البيت العتيق. لا أحد ينظر إلى الآخر، ولا أحد يسأل من أين أتيت، فكلهم جاء به "الإيمان"، وكلهم سواء أمام الكعبة: غنيٌ وفقير، ملكٌ وراعٍ، عالمٌ وأميّ.
وفي لحظة السجود قرب الكعبة، يلتقي الجبين بأقدس أرض، ويشعر الساجد أن روحه سقطت لتلامس الرحمة، فالقرب في رحابها يعمره مزيد من اليقين بموعود الله.
لست بصدد الحديث عن فضلها، فأنا بلسان العاشق المتأمل أتحدث عن أثرها حين تحفر وشمَ حبٍ يتجدد مع كل لقاء. يغادرها الزائر حاج أو معتمر وقلبه معلّق، كأنه ترك جزءًا من روحه في ساحاتها، ووعدها بالعودة. ولهذا لا يُقال عن المحبين لمكة إنهم زاروها، بل إنهم عادوا إليها، لأن الأرواح لا تبرح موطنها الأول.
مكة ليست كغيرها من المدن، فهي لا تعبرها الأقدام، وإنما تعبر بك، وتدخل إلى أعماقك قبل أن تطأ ترابها. تطوي المسافات، بلهفة الأرواح، لا بوسائل النقل، في كل زاوية من زواياها دعاء، وفي كل نسمة من هوائها رجاء.
فسبحان من جعل في الأرض بقعة لا تشبع الأرواح منها، ولا تملها القلوب، وجعل رؤيتها شفاءً، وزيارتها تجديدًا للعهد والإيمان.