الكاتب : النهار
التاريخ: ٠٩:٢٣ م-٠٢ أغسطس-٢٠٢٥       15620

بقلم: ريم المطيري

في زمنٍ تتكاثر فيه الصور وتتناقص المعاني، يأتي فيلم “العوجا 17:47” كصفعة ضمير، ونداء يقظة، وتجربة فنية تعانق الوجدان الوطني بكل ما فيه من فخر وألم وأمل.

قصة الفيلم.. حين تُروى البطولة بلغة الصورة

في قلب أحداث حقيقية وقعت في يناير 2018، ينسج الفيلم قصته على خيوط من الدخان، والتراب، والدم. يُجبر الطيّاران، الرائد فهد الحقباني والرائد عبدالله الزير، على القفز من طائرتهما المعطلة، لتبدأ رحلة إنقاذ أشبه ما تكون بأسطورة من أساطير المروءة العربية.
لكن ما يميّز الفيلم ليس تسلسل الأحداث، بل تطور الشخصيات داخليًا، فكل لحظة صمت هي جملة بطولة، وكل نزفٍ من الجرح يُنطق بشرف الواجب. كان الرائد الحقباني لا يُقاتل فحسب، بل يكتب سطوره في دفتر الوطن. وكان الزير، المصاب والمحاصر، يجسّد الصبر كأشرف صنوف المقاومة.

القوات المسلحة.. يدٌ تبطش وعدالةٌ تُطمئن

منذ اللحظة الأولى، يُظهِر الفيلم واقع القوات المسلحة السعودية ليس كقوة عسكرية فقط، بل كدرع روحي يحمي الشعوب والقيادات من القلق والضعف. خطط الإنقاذ المحكمة، التفاعل اللحظي، التنسيق الدقيق، والاحتراف العالي، كلها مشاهد تُرسّخ لدى المتلقي يقينًا واحدًا: القوات المسلحة السعودية ليست فقط من يحمي حدودنا، بل من يسكب الطمأنينة في قلوبنا.

الموسيقى.. لغة تسبق الكلمات

لم تكن الموسيقى التصويرية في “العوجا” مجرد خلفية، بل كانت شخصية ثالثة، تصعد حين تصمت البنادق، وتهمس حين تعجز العبارات. المقاطع الموسيقية كتبت مشاعر الرعب والعزيمة والخوف والفخر في نوتة واحدة، وعززت تماهي المشاهد مع كل لحظة ألم، وكل قطرة دم، وكل صرخة مقاومة.
لقد فهم صانعو العمل أن الجمال لا يُفسد البطولة، بل يُبجلها.

رسائل الفيلم.. ما بين السطر والصدى

“العوجا” لم يرفع شعارات جوفاء، بل بث رسائل ذكية وعميقة:
    •    أن التضحية ليست بطولة لحظة، بل نظام حياة.
    •    أن الوطن لا ينسى أبناءه مهما غابوا في جبهات النسيان.
    •    أن القيادة لا تُترك وحدها في الميدان؛ فكل جندي هو امتداد لها، وكل إنقاذ هو تجديد لعهد الولاء.

التواصل الاستراتيجي.. البطل غير المرئي

وراء كل مشهد مشوق، وكل لقطة مبهرة، كان هناك عقل اتصالي يخطط ويقيس ويراجع. التواصل الاستراتيجي في هذا الفيلم لم يكن دعائيًا ولا استعراضيًا، بل كان واعيًا بثلاثية التأثير: من نخاطب؟ بماذا؟ وكيف؟.
نجح العمل في مخاطبة الشعب والعالم، بلغة فنية رفيعة، دون أن يتنازل عن مضمونه العسكري، ودون أن يقع في فخ البطولات المصطنعة أو الخطاب المباشر. إنها بصمة إدارة التواصل الاستراتيجي بوزارة الدفاع، التي جمعت بين الاحتراف الإعلامي، والانضباط العسكري، والبصيرة الاتصالية.

العوجا.. ليس فيلمًا بل تجربة تعبيرية وطنية

في ختام هذه التجربة، لا يمكننا اختزال “العوجا 17:47” في كونه فيلمًا قصيرًا. بل هو مساحة تحليلية عميقة، تُحاور العقل قبل العين، وتستفز المشاعر لتعيد ترتيب القيم.
إنه مرآة تعكس ما لا يُقال في نشرات الأخبار، وتمنحنا قدرة على طرح الأسئلة الكبيرة:
كيف نصون بطولات جنودنا في ذاكرة الأجيال؟
كيف نستثمر  الفن  ليكون أداة وعي، لا مجرد تسلية؟
وكيف نمنح الوطن صورة تليق بقلبه لا فقط بحدوده؟

“العوجا” هو شاهد صدق على أن الصورة قد تفتح الجرح، لكنها قادرة أيضًا أن تداويه.
وأن الجنود ليسوا فقط على الأرض، بل في كل قلب وضمير وفكرة.