

كتب محرر النهار الثقافي:
في رحلةٍ شعريةٍ مفعمة بالروحانية والولاء، أطلّ الشاعر حمدان سالم العنزي من مدينة عرعر بقصيدته الملحمية “رئة الوحي”، ليعيد إلى الأذهان مشهد نزول الوحي على النبي محمد ﷺ في غار حراء، ويستحضر مآثر الصحابة الكرام ومواقفهم الخالدة في نصرة الدين ونشر الرسالة.
جاءت القصيدة بأسلوبٍ تصويري متدفّق، يمزج بين الفصاحة الكلاسيكية والوجدان المعاصر، مقدِّمةً للقارئ لوحاتٍ من السيرة النبوية تتخلّلها مشاهد الإيثار، والصبر، والرحمة، التي جسّدها رسول الإنسانية ﷺ.
ويُعدّ العنزي من الأصوات الشعرية المتميّزة في المديح النبوي والشعر الوطني، عُرف بقصائده ذات البعد القيمي التي تعكس تمسّكه بالهوية الإسلامية واعتزازه بالرموز التاريخية للأمة.
رِئَةُالوَحْي
شعر / حمدان سالم العنزي
يا طِفْلَةَ الغيمِ هاكِ العِلْمَ والخَبَرا
اليوم مُخْتَلِفاً قدْ جئتُ بل مَطَرا
ولَمْ أكُنْ ذات يومٍ رغم صعلكتي
إلاّ أخَ الطُّهرِ مهما عِشْتُكِ وَطَرا
يا ضحكةَ الصُّبحِ كم أهوى براءَتَكِ
لَمَّا تزيدينَ فيما يُشْبِهُ الحَذَرا
غَطّي ضُحى الشمسِ عَنَي إنّني خَجِلٌ
فسوف أذْكُرُ مَنْ هُمْ خَيْرُ مَنْ ذُكِرَا
هل تَذْكُرِيْنَ أبا بكرٍ و صُحْبَتَهُ
للمصطفى حين كان الغارُ مُخْتَبَرا
أهواكِ مقدارَ ما الإسلامُ عَلّمَنا
نهوى عَلِيّاً و نهوى مِثْلَهُ عُمَرا
وَمِلْئَ قلبٍ لذي النُّوْرَيْنِ نَزْرَعُهُ
كَنَخلةٍ تنشرُ الإيمانَ إذ وَقَرا
فَفِيْ عَلِيٍّ رَسَمْنا الحُبَّ خارطةً
نَهْدِي بها لِدُرُوبِ اللهِ مَنْ عَثَرا
الراشدونَ و أيُّ الوَصْفِ يُنْصِفُهُمْ
أفاضلُ الخَلْقِ لا أُحْصِيْ لَهُمْ مَطَرا
حُمْرٌ مواقعهمْ بيضٌ صحائفهمْ
أُسْدٌ على البَغْيِ أنهارٌ على الفُقَرا
ما ضلّلَ الناسَ إلا الناسُ إذْ سَلَكُوا
في الدِّيْنِ نهجاً سحيقاً موحشاً وعِرا
وَ شَرْعُ رَبِّي يسيرٌ لا يُنَازِعُهُ
في الرِّفْقِ مُسْتَرْفِقٌ إلا وقدْ خَسِرا
يكفي الصحابةَ بين الناسِ صُحْبَتُهُمْ
أ نْقَىَ و أطهرَ مَنْ أصْغَىَ و مَنْ نظرا
محمدٍ ما رَأتْ عينٌ ولا سَمِعَتْ
أذنٌ كَمَنْ مِثْلِهِ فَرْداً ولا نَفَرا
مُذْ كان ينشرُ للأغنامِ غُرّتَهُ
أمَدَّهُ اللهُ نوراً ساطعاً نَظِرا
يرعى وترعاهُ آياتٌ ترافقهُ
بِهِ تُبَشِّرُ حُزْنَ الأَرْضِ والشجرا
خَتْمُ النبوّةِ موسومٌ بشامتِهِ
كَأنّها غيمةٌ تَسْتَمْطِرُ القَمَرا
ترعرعَ الطفلُ ما زَلّتْ بهِ قدمٌ
فَكُلُّ معصيةٍ لم يُلْقِها نَظَرا
مِنْ حَولِه تضربُ الأصنامُ سطوتَها
ساداتُ مكةَ - ظُلْماً - تعبدُ الحجرا
من عَجْوةٍ يصنعونَ الرَّبَ سَيِّدَهُمْ
غيبوبةُ الفِكْرِ فيها العقلُ قَدْ سَكَرا
لكنّ عقلَ رسولِ الله مكتملٌ
مِنْ قَبْلِ جبريل ما يوحي له خَبَرا
بطحاءُ مكةَ والوديانُ تعرفه
تكاد أقدامُهُ لا تَجْرَحُ الأثَرا
كم طائرٍ حول صحنِ البيت عانقه
فنورُ أحمدَ يُحْيِيْ الروحَ والبصرا
في الغارِ حيث رسولُ الله معتكفٌ
تمثَّلَ الروحُ جبريلٌ له بَشَرا
ألْقى أمِينُ السَّما مِنْ وَحْيِ خالِقِهِ
على الأمينِ الذي في صِدْقِهِ اشْتَهَرا
لُقْيا ( الأمِينَينِ ) أعْطَى الأرضَ بُرْدَتَها
فَجْراً جَدِيداً وَ ذِكْراً مُعْجِزاً عَطِرا
طُهْرُ السّماءِ وَ صِدْقُ الأرضِ ما الْتَقَيا
إلاَّ وَ يَهْلَكُ شيطانٌ قَدِ انْتَحَرا
و ما اسْتَقَرَّ بِقَلْبِ المصطفى كَلِمٌ
مِنْ وَحْيِ جِبْرِيلَ إلاّ مُعْجِزٌ بَدَرَا
صَبْرُ النَّبِيِّ لِحَمْلِ الوَحْيِ مَسْألَةٌ
لا لَنْ يُحِيطَ بِهَا إلاَّ مَنِ إدَّكَرا
فالوَحْيُ مَسٌّ حَمِيدٌ مُنْهِكٌ عَسِرٌ
يَنوءُ في حَمْلِهِ مَنْ طَوَّعَ الحَجَرا
واللهُ يَعْلَمُ مَنْ يُعْطِي رِسالَتَهُ
ما مِنْ رَسولٍ أتاهُ الوَحْيُ فاعْتَذَرا
يا هيبةَ الموقفِ المحمومِ كم عَجَزَتْ
عقولُنا أنْ تُحَاكِيْ وَصْفَهُ صُوَرا
لَمّا استوى المَلَكُ المرسولُ مبتَسِماً
كان الحبيبُ يُطِيْلُ الصمتَ والنَّظَرا
ألقى على قَلْبِهِ ( اقرأ ) فضاق بها
وأوشَكَ الغار ُ يُلْقِي دَمْعَهُ حَجَرا
اقرأ وإنْ كُنْتَ أمُّيّاً لَقَدْ نفذَتْ
مشيئةٌ تَسْبِقُ الغَيْبِيَّ و القَدَرَا
( اقرأ ) لِتَخْتِمَ للدنيا نُبُوَّتَها
أنتَ النَّبيُّ فَإنّ اللهَ قَدْ أمَرَا
تصبَّبَ العرقُ الفَوّاحُ مِنْ جسدٍ
مِزَاجُهُ المِسْكُ مهما فاضَ و اخْتَمَرا
فَلِلنُّبُوَّةِ غيبٌ لا يُحيطُ بِهِ
فطاحلُ الفِكْرِ حتى مَعْشَرَ الشُّعَرَا
أمْضَى عَلَيْهِ ثلاثاً و هْوَ يُقْرِئُهُ :
(اقرأ ) و عَزْمُ نَبِيِّ اللهِ قَدْ فَتَرا
حتى رأى نفسَهُ في الغارِ مُنْفرداً
في سَكْرةٍ و فَمُ الأيامِ قدْ فَغَرا
استحكمتْ حلقاتُ الكربِ جاثمةً
على الذي صَدْرُهُ يستنبتُ الثَّمَرا
ضاقَ النبيُّ وَ مَنْ في الناسِ يَسْمَعَهُ
سوى التي صَدّقَتْ و الكُلُّ قَدْ كَفَرا
خديجةُ النِّعْمَةُ المُهْدَاةُ قَدْ عَلِمَتْ
أنَّ الجوائزَ تُعْطَىَ كُلَّ مَنْ صَبَرا
قد زَمَّلَتْ زوجَها طِفْلاً تُمَهِّدُهُ
وَ لَمْ تُزَمِّلْ سوى نورٍ قَدْ انتشرا
وذاتَ ليلٍ ونورُ البدرِ مكتملٌ
و للسماءِ حديثٌ يَلْفتُ البَشَرا
( هذا الذي زارني في الغارِ أعْرِفُهُ
بين السّماءِ وَ وَجْهِ الأَرْضِ قَدْ شَهَرا )
يُنْبِيْ بها خيرُ مَنْ سارتْ بهِ قدمٌ
ونورُ جبريلَ فِيْ الدُّنْيا قَدِ انْتَشَرا
كُرسيُّهُ شامِخٌ ...... فالله ثَبَّتَهُ
بين السماءِ و أرْضٍ أوْجَسَتْ خَبَرا
( فِلْمُ ) النُّبُوّةِ والرحمنُ مُخْرِجُهُ
وَ الرِّيْحُ قَدْ سَبّحَتْ و البَحْرُ قَدْ شَكَرا
والطّيرُ في وكَنَاتٍ ساجِدٌ فَرِحٌ
والعادياتُ تَوَالَى ضَبُحُها هَدِرا
والنّخْلُ لُقَّحَ حَتّى قَبْلَ دورَتِهِ
والزَّرْعُ أدْرَكَ في عَلْيائِهِ الشَّجَرا
والوَحْشُ أهْدَى إلى الصَّحْرا وَداعَتَهُ
كَأنَّهُ حَمَلٌ قَدْ سَرَّ مَنْ نَظَرا
وَ قَدْ عَجِبْتُ مِنَ الأحَقَافِ إذْ نَفَضَتْ
ما فوقَ كاهِلِها حتى بدا نَثِرا
وَ قَدْ تَرَكْتُ كثيراً مِنْ مُقارَبَتي
وَ لَمْ يَزَلْ في خيالي غيرُ ماذُكِرا
وَ إنَّ رؤيايَ مَهْما أبْحَرَتْ فَلَها
حَدٌّ فَما أنا إلاَّ شاعراً جَسِرا
وَ قَدْ ذَكَرْتُ أحادِيثاً تساورني
وَ الوَحْيُ غَيبٌ بِهِ جِبْريلُ ما جَهَرا
سَمَا الرسولُ ورؤيا الحَقِّ قدْ صدقتْ
جبريلُ أعْلَنَ :( أمْرُ اللهِ قد صَدَرا )
وَ مُنْذُ أنْ زُمِّلَ المصدوقُ ما ضَعفَتْ
في قلبِهِ رَحْمَةٌ كَيْ تنقذَ البَشَرَا
تَحَمّلَ الكربَ قُرْباناً لدعوتهِ
فكم تأذّى وكمْ عندَ الأذى صَبَرا
كم حَرْبَةٍ من أوْلِي قُرْبَى قد اخترقتْ
صَدْرَ النبيِّ فأخفى عَنْهُمُ الأثَرا
و كم عفا قادراً وَ عَفَّ في عَوَزٍ
و كم بكى في يَدِ الأيتامِ منكسرا كَمْ ضَرْعِ شاةٍ يَبُوْسٍ دَرَّ في يده
ففاض معجزةً تستحضر العِبَرَا
يَدُ الرسولِ التي ما ضَمَّهَا وَجِلٌ
إلّا تَغَشّاهُ أمْنٌ يكشف الخطرا
الرّفْقُ مَبْدَأُهُ والبذلُ مَنْهَجُهُ
و الصِّدْقُ أعْظَمُ دُسْتُوْرٍ بِهِ جَهَرا
وَ ثَوْبُهُ خَامَةُ الأخلاقِ طَيَّبَهَا
طُهْرُ النُّبُوَّةِ نِعْمَ الثَّوب قَدْ سَتَرا
عَلَى ( القَوَاريرِ ) أوْصَى فانْتَصَرْنَ بِهِ
فَما النِّسَاءُ سِوَى غَيْثٍ قَدْ انْهَمَرا
نورٌ وَ رَوْحٌ و رَيْحانٌ وَ بَسْمَلَةٌ
مُحَمَّدٌ وَ يَظَلُّ الوَصْفُ مُخْتَصَرا
لَمْ تُنْجِبِ الأرضُ مَخْلُوقاً يُقَارِبُهُ
لَو كُرِّرَ الاسْمُ يَبْقَى الأصْلُ مُحْتَكَرا
قَدْ أمْسَكَ العروةَ الوُثْقَى وَ أحْكَمَها
فكيفَ يَخْسَرُ مَنْ في رَبِّهِ انْتَصَرَا
صَلُّوا عَلَيْهِ صَلَاةً تُرْحَمُونَ بِهَا
فَهْوَ الشَّفِيْعُ بيومٍ يُذْهِلُ البَشَرا
صلاةُ ربّي صلاةً لا شَبيهَ لها
سِواكِ يا أدْمُعَ الأيتامِ والفُقَرا
على محمّدٍ المصدوقِ أحفَظُها
عَلِّي أكونُ بها في الحَشْرِ مُنْتَصِرا
fO79Y2lnfKM?si=fKvd12pbt3RRblrT

