الكاتب : النهار
التاريخ: ١٠:٥٥ م-٢٣ يناير-٢٠٢٥       20240

بقلم: د. غالب محمد طه
في المرحلة المتوسطة، ربما كانت المرة الأولى التي تعرفنا فيها عن قرب على دولة الكويت. كنا نعرفها بالطبع من خلال المقررات الدراسية كدولة خليجية لها تاريخ وتراث؛ لكن الأحداث التي جرت في صباح الثاني من أغسطس من العام 1990 غيّرت هذه الصورة؛ إذ أتذكر صباحًا مشحونًا بالمشاعر عندما تابعنا أخبارًا عن غزو العراق للكويت ؛ كانت لحظة مليئة بالمشاعر المتباينة: القلق، الفضول، والرغبة في فهم أبعاد هذا الحدث، كان موقفًا صادمًا لنا نحن الصغار، لكنه فتح عيوننا على الكويت، ليس فقط كدولة، بل كقصة معاصرة شهدنا بعض فصولها، ونجحت في إثراء أدمغتنا الطرية يومذاك.
زاد هذا القرب عندما انضم إلى فصلنا زملاء عادوا من  الكويت  بسبب تلك الأحداث، أتذكرهم بوضوح؛ كانت لهجتهم السودانية الممزوجة بلكنة خليجية شيئًا جديدًا بالنسبة لنا. في البداية، كان هناك نوع من الحذر، ربما بسبب الظروف أو البيئة الدراسية الجديدة عليهم، لكن مع مرور الوقت أصبحوا جزءًا منا. كانوا لطفًا وتواضعهم جعلهم قريبين جدًا منا مع مرور الأيام. شاركونا شغفهم وذكرياتهم عن الكويت، بحرها، بيوتها القديمة، أكلاتها، وقصصهم اليومية التي حملت عبق تراثها. كانت هذه التجربة بمثابة نافذة إضافية أتاحتها لي تلك الظروف لأكتشف  الكويت  عن كثب، ما جعلني أكون أكثر ارتباطًا بها في ذهني، ليس فقط كدولة، بل كقصة ثقافية تحمل تاريخًا حيًا يتجسد في تفاصيل الحياة اليومية.
أما علاقتي بالكويت فتعززت مع مجلة "العربي". أول مرة اقتنيتها، شعرت وكأنني أكتشف نافذة جديدة؛ نشأت بيني وبين المجلة علاقة حب قوية، وكنت أبحث عن أعدادها رغم أن مصروفي كان محدودًا للغاية. أذكر اليوم الذي وجدت فيه عددًا قديمًا منها يعود لتاريخ ميلادي في أحد أرصفة الخرطوم. كان شعورًا لا يوصف، حتى إنني دفعت فيه كل ما أملك، وصنعت له مكانًا خاصًا في مكتبتي المتواضعة. لقد تركت هذه المجلة في نفسي انطباعًا عميقًا عن الكويت، ليس فقط كدولة، بل كرمز ثقافي مميز.
اليوم، وأنا أستعيد تلك الذكريات، أشعر بالفخر لأن  الكويت  ستكون عاصمة  الثقافة  العربية 2025، وكذلك عاصمة للإعلام العربي؛ هذا الاختيار هو اعتراف مستحق بجهود  الكويت  وإسهاماتها في المشهد الثقافي والإعلامي العربي؛  الكويت  التي تمتد حضارتها لآلاف السنين، وبفضل موقعها الجغرافي كجسر بين الشرق والغرب، أصبحت مركزًا تجاريًا وثقافيًا مهمًا؛ إذ استقبلت العديد من الثقافات والمفكرين والفنانين؛ كما أن دورها البارز في الإعلام العربي جعلها محط أنظار العالم العربي، حيث أسهمت في تطوير الإعلام العربي وتعزيز التواصل بين الشعوب.
مجلة "العربي" ورؤساء تحريرها: منارة فكرية وثقافية
منذ انطلاقتها في عام 1958، كانت مجلة "العربي" تمثل أحد أعمدة  الثقافة  العربية، بفضل دورها الريادي في نشر الفكر والمعرفة؛ لا يمكن الحديث عن  الكويت  كعاصمة للثقافة العربية 2025 دون الإشارة إلى هذه المجلة، التي شكلت منصة مهمة للأدب والفكر العربي عبر الأجيال؛ بقيادة نخبة من المفكرين البارزين، مثل الدكتور أحمد زكي، الذي وضع بصمته منذ البداية من خلال أسلوبه العلمي العميق، إلى أحمد بهاء الدين الذي أضاف بعدها الثقافي وجعلها منبرًا للأدب والفكر المستنير. وفي فترة لاحقة، جاء الدكتور محمد غانم الرميحي ليدفع بالمجلة نحو آفاق جديدة تتماشى مع تحديات العصر، ليكمل المسيرة الدكتور سليمان إبراهيم العسكري الذي حافظ على استمراريتها. أما إبراهيم المليفي، فقد بذل جهدًا كبيرًا في الحفاظ على هذا الإرث الثقافي وضمان بقاء المجلة رائدة في المجال الثقافي العربي.
لم تقتصر "العربي" على تسليط الضوء على الأدب والفكر فقط، بل كانت أيضًا منصة لتناول القضايا السياسية والاجتماعية التي أثرت في العالم العربي. ولعل نجاح المجلة يكمن في قدرتها على التجديد المستمر، في الوقت الذي حافظت فيه على التزامها بالمبادئ الثقافية التي رسخها مؤسسوها.
إلى جانب ذلك، أطلقت  الكويت  "كتاب العربي"، الذي جمع إبداعات كبار الكتّاب وأهم المقالات التي سبق نشرها، ليضيف بُعدًا آخر إلى نشر  الثقافة  بمساهمات مميزة. كان "كتاب العربي" منصة تجمع خلاصة الفكر والإبداع، مما جعله رافدًا هامًا للمشهد الثقافي العربي.
كما أطلقت  الكويت  مجلة "العربي الصغير" للأطفال، التي كانت بمثابة معلم صامت يغرس حب المعرفة في نفوس الأجيال الجديدة بأسلوب مشوق، ليظل تأثيرها خالدًا في الأذهان.
وفي مجال الفنون، تظل  الكويت  منارة للثقافة والفنون في العالم العربي. المسرح الكويتي، الذي يعد من الأقدم في منطقة الخليج، تناول العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية بجرأة وإبداع، ليُعد علامة فارقة في المشهد الفني العربي.  الكويت  أيضًا كانت ولا تزال تدعم الأدب العربي، من خلال جوائزها الأدبية المرموقة ومبادراتها في ترجمة ونشر الأعمال الأدبية، كما أسهمت في تعزيز حركة القراءة والترجمة، مما جعلها تلعب دورًا رئيسيًا في ربط العالم العربي بالثقافات الأخرى.
اختيار  الكويت  عاصمة للثقافة العربية وعاصمة للإعلام العربي لعام 2025 ليس مجرد تكريم، بل هو فرصة لتسليط الضوء على هذه الإنجازات الثقافية المميزة؛ وفرصة ثمينة للاحتفاء بالكويت كنموذج يحتذى به في تعزيز الحوار الثقافي بين الشعوب، ولإبراز دورها الريادي في دعم الحركة الثقافية والإعلامية. إن المشاركة في فعاليات  الكويت  في عام  الثقافة  العربية 2025 ستكون فرصة استثنائية لاستكشاف تراث هذا البلد الغني، والتعرف على إبداعه، ليكون هذا المشهد الثقافي شهادة حية على دور  الكويت  الريادي في مجالي  الثقافة  والإعلام.
وبالله التوفيق