الكاتب : النهار السعودية
التاريخ: ٠٩:١٩ ص-٣١ ديسمبر-٢٠٢٤       20955

بقلم-أحمد صالح حلبي 

حينما يكون الحديث عن الاستشراق والمستشرقون ، يبدأ البعض في طرح أسئلتهم عن جدوى الحديث عن هؤلاء الأفراد ، متناسين أن الاستشراق مثل " حركة فكرية وفلسفية أسسها البيروقراط في بريطانيا بغرض فهم ثقافات، فلسفات وأديان الشرق إبان الاستعمار البريطاني للهند في أواسط القرن الثامن عشر، وتوسعت حركة الاستشراق في الدول الاستعمارية كبريطانيا، فرنسا، وألمانيا، ودُرِست من قبل الأكاديميين في أروقة الجامعات والمعاهد العلمية بصورة أكثر منهجية، وشملت الشرق الأقصى والأدنى والأوسط بما فيها الدول العربية "  ، مع تركيز خاص على مكة المكرمة باعتبارها قبلة المسلمين . 

وإن برز  الاستشراق بعد القرن العاشر كما تشير عدد من المصادر والمراجع من خلال  نشاط التأليف في كتب الرحلات إلى مكة من لدن الرحالة المستشرقين ، الذين أظهروا  اهتمامهم  البالغ للتعرف على مكة المكرمة وموقعها وتضاريسها وأسرارها ، والتعرف على أحوال المسلمين فيها وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية ، إلا أن  الدكتورة صفاء إبراهيم العلوي مديرة الارشيف الوطني بمملكة البحرين وهي أول بحرينية تحصل على الشهادة المتخصصة في علوم إدارة ونظم الأرشيف الحديثة ،  أشارت في مقالها بجريدة الوطن البحرينية بتاريخ 4 أغسطس 2019 ، تحت عنوان " مكة حلم المستشرقين " ، إلى أبعد من ذلك إذ أوضحت أن مكة المكرمة " كانت أمنية المستشرقين، حلم يتطلعون لزيارتها ليتعلموا كيف كانت انطلاقة الفكر الإسلامي من هذا المكان، مما أدى إلى أن تكون محط اهتماماتهم ودراساتهم منذ القرن الخامس قبل الميلاد من قبل الكثير مثل « ثيوفرست وهييرودوتس » تلاميذ أرسطو ومروراً بالجغرافي اليوناني «سترابون « وفِي القرن الأول والثاني الميلادي أيضاً من قبل المؤرخ اليوناني «بليني» حتى القرن الخامس عشر الميلادي عندما تدفق الرحالة الأوربيون على الجزيرة العربية " ، مشيرة إلى أن " أول من ادعى وصوله إلى مكة هو الإيطالي جون كابوت عام 1480 قبل سقوط الأندلس واكتشاف أمريكا باثني عشرة عاماً، ولكن أول من سُجِلَ بالوثائق والسجلات الرسمية هو «يونس المصري» عام 1503 وهو رجل إيطالي اسمه الحقيقي « فارتيما» وجاء مبحراً من البندقية مروراً بالإسكندرية وطرابلس وأنطاكية وبيروت ودمشق، وهناك في دمشق تعلّم اللغة العربية ليشد الرحال جنوباً بزي جندي مملوك واصفاً نفسه جندياً في حرس المماليك، فوصف مكة في الفصل الأخير من كتابه «رحلات فارتيما»: «إنه لم يجد مطلقاً من قبل مثل هذا العدد من الناس يجتمع في بقعة واحدة من الأرض».

وبهذا فإنه يمكن القول بأن الرحالة الإيطالي فارثيما الذي أطلق على نفسه اسم (الحاج يونس المصري) ، هو أوّل رحالة أوربي تطأ قدماه مكة المكرمة وفقا لما أشارت إليه  المصادر، وكان ذلك في عام 1503م .

وفي كتاب " رحالات فارتيما " ، يقول المحقق والمترجم عبدالرحمن الشيخ : " إنه بالرغم من أهمية رحلة فارتيما، فإننا لا نكاد نعرف عن حياته إلا النزر اليسير، إذ يقول المستشرق بيرسي بادجر إن معظم ما نعرفه عن فارتيما هو ما ذكره فارتيما عن نفسه، وفي موسوعة التراجم العالمية في القديم والحديث المطبوعة في باريس سنة (1827م) نجد نصًّا فرنسيًّا نعرف منه أنه رحالة إيطالي قام برحلة في القرن السادس عشر (هكذا دون تحديد للسنة أو للسنوات) وأن هذه الرحلة هامة جدًّا للمشتغلين بتاريخ الجغرافيا، وللمؤرخين بشكل عام، وأنها إضافة حقة تعرفنا بالعالم من حولنا، ويعجب بادجر من أن المراجع التي كتبها الإيطاليون أغفلته أو كادت، فالمؤلف الإيطالي زورلا (Zurla) لم يذكره ضمن أشهر الرحالة الايطاليين، أما المؤرخ الإيطالي فانتوزي (Fantazzi) فلم يتعرض لفارتيما إلا من خلال أسطر قلائل شكا في مطلعها من قلة المعلومات عنه وأنهاها بالتشكيك في عودته إلى إيطاليا " 

ثم جاء بعد فارتيما  جوهان الأسير الألماني والذي وقع في أسر الجيش التركي أثناء أدائه للخدمة العسكرية بالجيش الإمبراطوري في المجر، واقتيد إلى القسطنطينية عام 1604، وبيع في سوق الرق ثم بيع إلى تاجر آخر اقتاده إلى مصر، ليباع مجدداً لتاجر فارسي أخذه معه في رحلة الحج إلى مكة المكرمة عام 1607م، وأطلق عليه المستشرق الأسير، وجد في رحلته للحج فرصة يدون فيها العديد من المشاهدات عن مكة المكرمة والحياة الاجتماعية والاقتصادية بها، ويحمل معلومات عن هذه المدينة المقدسة لدى المسلمين، وعن رحلة الحج التي كان الغرب يبحث عن معرفة تفاصيلها وأسرارها، واستطاع أن ينقل للغرب ما كانوا يحتاجون إليه من معلومات، كما نقل ما يعانيه الحجاج في رحلتهم من مشاق ، وجاءت تفاصيل رحلة يوهان وايلد في مذكراته التي كتبها بعنوان «تقرير رحلة لأسير مسيحي»، وطبعت عام 1613م، ثم أعيدت طباعتها عام 1623م.

أما دومينغو باديا الذي  عرف باسم علي باي العباسي ، فهو رحالة وجاسوس إسباني، وصل إلى مكة المكرمة، خلال الفترة من 1803-1807، متقمصاً مظهر الرجل التقي المسلم، ويعتبر أول إسباني يدخل مكة المكرمة ، استطاع التعرف على عادات الشعوب في مصر والمغرب وسورية ولبنان وفلسطين، وأصدر أول كتاب له عام 1814 بعنوان «رحلات علي باي العباسي في إفريقيا وآسيا خلال الأعوام 1803-1807 « باللغة الفرنسية في ثلاثة أجزاء، وأهداه إلى لويس الثامن عشر ملك فرنسا، وضم الكتاب مجموعة كبيرة من الخرائط والرسوم التي نفذها الرحالة بنفسه، وفي عام 1816 ظهرت الترجمة الإنجليزية للكتاب في جزأين تحت اسم «رحلات علي باي في المغرب وطرابلس وقبرص ومصر والجزيرة العربية وسورية وتركيا بين الأعوام 1803 - 1807 كما ترجم الكتاب إلى الألمانية ثم إلى الإيطالية في عام 1816، وظهر الكتاب باللغة الإسبانية عام 1836 باسم المؤلف الحقيقي دومينغو فرانثيسكو باديا، وليس باسم علي باي العباسي كما ظهر في الترجمات السابقة.

وهناك العديد من المستشرقين الذين دخلوا مكة المكرمة تحت ستار الإسلام وهم ليسوا مسلمين ، و تناولوا الحديث عن رحلة الحج ، كالمستشرق الإنجليزي ريتشارد بيرتون الذي جاء لمكة المكرمة بتكليف من الجمعية الجغرافية الملكية بلندن في تقريره " لقد رأيت شعائر دينية في بقاع كثيرة من الأرض، لكنني لم أر أبدًا ما هو أكثر وقارًا وتأثيرًا مما رأيته هنا " ، والمصور الفرنسي الشهير غيل كورتلمون الذي عرف لاحقا باسم «عبدالله بن البشير»، وحضر فريضة الحج عام ١٨٩٤، وقال في كتابه « رحلتي إلى مكة  »، إن "  عشرون ألف مؤمن يتراصّون في صفوف منتظمة، يقفون في ثبات وسكون: «بسم الله...» فعمّ الحرم الشريف صمت مطبق، وامتلأت القلوب بالإيمان فى صمت، «الله أكبر...» فيرد الجميع بصوت واحد، وبصوت خافت: الله أكبر إلا أنّ عدد المصلين كبير جدًا، لدرجة أنّ ترديد الأصوات، وإنْ بصوت خافت، يجعلها تتجمع في صوت هائل مفعم بالإيمان .