الكاتب : النهار
التاريخ: ١٠:٥٤ م-١٢ مايو-٢٠٢٤       29315

لم يخطر ببالي السفر إلى  مدينة العُلا  -  شمال غرب المملكة العربية السعودية  - إلا بعد أن حدثتني الصور السياحية المنتشرة في كل مكان عن جمال طبيعتها الفاتن.. جاذبية تلك الصور وقوة تأثيرها، جعلتني انطلق صوب العلا دون تردد أو انتظار.

كنت أعلم أن الواقع في أي مكان يختلف عن الصورة، فهي كما يقال؛ "تكثف اللحظة الجميلة، ولا تهتم بمشقات السفر ومفاجآته غير السارة".. لكن بالفعل، ذلك المكان لا يشبه غيره!! كنوزه الأثرية وتشكيلات جباله ومهرجاناته المغرية، لا تعطيك فرصة التفكير طويلا في متاعب السفر.

منذ انطلاقتي من مدينة جدة عبر الطريق السريع والواسع، والأجواء يتداخل فيها المطر مع الغبار، ورياح الخريف ببرد الشتاء، لدرجة أنني قطعت مسافة الطريق الطويلة وكأنني أسير بين الأرض والسماء!!

وصلت إلى  مدينة العُلا  قبل منتصف الليل، جوها

 يميل إلي البرودة قليلا، وسماؤها تمطر برذاذ خفيف لكنه ممتع.

مع إشراقة اليوم التالي؛ شعرت بأن كل الأماكن المحيطة بي تنطق بالترحاب.. لم أتوقف طويلا وأنا أضع أمامي خريطة جولاتي في المنطقة لأستطلع مساري بين خطوط السير المتقاطعة، واتجاهاتها المتعددة.. بدأت البحث عن المتعة المتخيلة التي تشكلت في ذهني مسبقا، لذا، استهليت رحلتي بالمشي في؛ الأودية وعلى الطرقات العتيقة، في وسط المزارع، بين الأثار وكتل البيوت الطينية، بحثا عن زمن مفقود تخيلت فيه؛ حديث الأولين ومصائرهم، وأزيائهم، وأجيالهم التي مرت واندثرت وطواها القدر.

بعد وجبة الإفطار السريعة، كان أمامي ثلاثة معالم أخرى متاحة للزيارة، أولها؛ البلد القديم، أقرب نقطه من مقر إفطاري، وصلت إليه سريعا، فاجأتني بيوته العتيقة بمنظرها الخلاب رغم بساطتها وتصميمها المكرر، كانت عبارة عن؛ شبكة من المباني المتلاصقة والمتداخلة، والمبنية من الطين والأحجار الصغيرة.. لفت نظري باستغراب، أبوابها المؤطرة بالحجارة الملساء التي تشبه مداخل البيوت الرومانية!! لاشك أن صمود تلك الجدران الطينية الهشة لسنين طويلة دون أن تتهدم وتفنى يثير الاستغراب! لم يكن السياح وحدهم مع التاريخ، كانت المرأة حاضرة، مرشدات سعوديات شرحن باستفاضة تاريخ وتراث المكان والإنسان، وعلى جوانب الممرات طاولات يقف خلفها فتيات أنيقات يقدمن فناجين القهوة العربية مع قطعٍ لذيذة من الكيك المنوع والعصائر المثلجة المصنوعة بأيديهن.

انتقلت من البلدة القديمة إلى الوجهة الثانية؛ "حَرّة عويريض"، صعدت جبلا مرتفعا يتجه باستمرار إلى الأعلى، انتهى إلى قمة منبسطة تطل على أودية ممتدة، تمتلئ عن آخرها بصفوف متراصة من أشجار النخيل الكثيفة.. المكان هادئ لا يقطع سكونه سوى صوت موسيقى تصدر من مطعم يوناني أنيق يقع على حافة إحدى المنحدرات..

بعد قضاء ساعة كاملة من الوقت شملت وجبة الغداء، غادرت مباشرة إلى الوجهة الثالثة، "جبل الفيل"؛ المعلم العجيب الغريب.. في طريقي إليه مررت صدفة بمنتجع يسمى"شادن"، يقع بين عدة جبال، تقف منتصبة كالأعمدة جنبا إلى جنب، امتزج فيها اللونين الأحمر والبني.. بصراحة، دهشة المكان حاصرت جميع حواسي!!، دخلت إلى عمق المنتجع عبر طريق مفروش بالرمل الأحمر الناعم، وأنا أجول بنظري في المكان، عادت بي الذاكرة إلى تلك الصورة الدعائية المشهورة لإحدى منتوجات سجائر التبغ في سهول الغرب الأمريكي؛ راعي بقر يمتطي صهوة جواده عند الغروب، وخلفه جبال تكتسي باللون الأحمر ، وحولها أمواج من الكثبان الرملية الصفراء... 

أناقة خطوط مطاعم المنتجع ومسارحه وبهجة مهرجاناته وظلال جباله تدعو للتأمل، وفي نفس الوقت التفكير في أن كل ما حولك ينبيء عن مستقبل جديد ومبهر، استعد للنهوض على أرض تلك الفضاءات الشاسعة.

تركت خلفي "شادن" وبيوت العطلات المنتشرة بين أحضان البراري الحالمة واتجهت إلى "جبل الفيل"، منظره المهيب أربكني بعض الشيء، جبل ضخم نحتته الريح وشكلت منه ما يشبه فيل عملاق يقف وحيدا وسط الرمال، المكان يزدحم بالثراء الجمالي، فالواقع العصري يتداخل مع براءة الطبيعة في انسجام تام، وكأنه قطعة سجاد حرير نُسجت بالعديد من ألوان الأزهار، كانت المقاهي الحديثة تحيط به من كل جانب وهي ممتلئة عن آخرها بالسياح الأجانب والمواطنين.. لم يستمر مكوثي طويلا بعد أن أقبل الليل حاملا تحت رداءه الأسود برد الصحراء القارس، لم يكن لديّ القدرة على احتمال لسعاته، قررت حينها حزم أمتعتي استعدادا للرحيل، وقبل أن أودع المكان، أضيئت الفوانيس الملونة، وصوبت أشعتها الدافئة نحو ذلك العملاق الخاشع في صمت.

بقلم:محمد جبران