






















حاورها - محمد سعيد الحارثي
العرب القدماء من جمال لغتهم وبلاغتهم في المشافهة، فيما بينهم جعلت من بيانهم سحرا، وهم لا يكتبون ولا يلحنون في القول لسانا عربيا بالعوج، لذا نبغ منها النابغة الذبياني المحكم ليمنح شهادة الجودة في الشعر بسوق عكاظ، فأشير لخطيبهم الأيادي بملك الخطابة، والعرب هم لا يكذبون لأن لديهم صدق المشاعر وأبنائهم يولدون فصحاء نجباء، وأصبح الشعر بأفواههم ينطق ويقرض على السليقة بالفطرة يولد معهم.
واللغة لا تشكل عائقا في التخاطب، فالجزيرة العربية هي البيئة التي أفرزت الخطباء والشعراء نثرا وشعرا، وشاعرتنا لم تخطئها هذه المعايير رافقها نبوغ الشعر مبكرا، في سن لم تعرف معه العروض والأوزان، ولكنها فصيحة بليغة.
وتقول بأن شعرها الحقيقي بدأ في مرحلة النضج، وهي على مقاعد الدراسة الجامعية، وفي هذا السن يعتبر بمقاييس بيئة العرب الآن، إنجاز لأنها تملك الموهبة والذكاء الفطري المتقد، وتملك الخيال، وكما قال الكاتب المسرحي الإنجليزي جورج برنارد شو "إن التخيل هو بداية الإبداع"، حينها أبدعت وسكن الشعر في سكينة، وتدفقت مشاعرها بأجمل الأشعار وتدفق الشعر من فيها كالماء الزلال في كل أغراضه.
حينها لفتت الأنظار هذه الشابة الطموحة لا سيما عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تنته دهشتنا معها هنا، فقد امتلكت موهبة أخرى، لا تقل جمالا عن موهبتها الشعرية، وهو فن الرسم التشكيلي، والذي أبدعت فيه وهي بذلك واءمت بين الجمال في الشعر والرسم واللذان يعتبران توأم مثل الروح للجسد لا ينفصلان.
فكما امتاز الشعر بالصور الفنية عند الشاعر الذي هو نزف لمشاعره الجياشة، ويأخذك بخياله المبدع بقصيدته إلى عالمه الذي يصوره يخلق للقصيدة روح، هو كذلك الرسم حين يقترن بالموهبة يكون الخيال، هو الإلهام فهذه الخصائص تكمن في ضيفتنا وتوجت هذا الألق بتحقيقها إنجاز غير مسبوق، بدخول اسمها بموسوعة الشعر العربي "الديوان" بتدوين أشعارها بهذه الموسوعة التي تعد أحد أهم المراجع الإلكترونية والورقية للشعر العربي على مختلف مراحله وعصوره.
صدر لضيفتنا ديوان بعنوان: "مغمورة بفن" هو ما جمعته من إنتاجها الأدبي والغيث منها قادم منهمر، وشاركت في العديد من لجان التحكيم في الشعر، وأحيت عدة أمسيات شعرية، وكونها فنانة تشكيلية، شاركت بعدة معارض، ورسمت بريشتها ومهارتها لوحات فنية تجلت فيها موهبتها.
يسعدنا بصحيفة "النهار السعودية"، أن تكون الأستاذة سُكينة بنت سعد الشريف ضيفتنا، والتي أفسحت لنا حيزا من وقتها الثمين، أن تجيب على أسئلة، طالما تبحث عن أجوبة مختلفة عن موهبتها، ونخوض معها في كيف يولد الشعر مع الشاعر؟، وعن أفقها المعرفي الذي جعل منها تنظر للحياة بجمالها، وما فيها من معاناة من خلال شعرها وفرشاتها، التي تلون تفاصيلها بطريقة سريالية، وكيف أثرت في تكوين شخصيتها، وكيف ترى هذا التميز الذي ميزها عن غيرها، وهي ما زالت في مقتبل العمر وغيرها من الأسئلة فأهلا وسهلا بكم سيدتي الفاضلة:
س هل ترين بأن الإبداع يولد من رحم المعاناة ؟
● غالبا الإبداعات التي لا تصقلها المعاناة ولاتشعل جذواتها لاتأتي مختلفة أو واعدة لذلك فالنور يولد من جوف الظلام وبعض الزهر ينبتُ في رماد مثل هذا النوع من التناقضات والصدمات هو ما يصنع الاختلاف والتميز في دواخلنا كما يقال أن الأذهان تبقى على أهبة الاستعداد في حال الصدمات.
● أستشف لبعض المعاني تجول في دواخلك من شعرك بأن هناك معاناة كادت ألا تظهر لنا هذا الجمال من الشعر وأعتقد بأنك ولدتِ من رحم هذه المعاناة اليس كذلك وسؤالي:
س: هل يعتبر الشعر مِرْآة بما يشعر به الشاعر؟
● أهم معاناة يتبناها الإنسان لإضاءة طريقه هي التساؤلات الوجودية التي تشعل فتيل أفكاره ؛تلك المتاهة التي بقدر تعقيدها تتفتق آمالنا ؛هناك من يتعثر عند أول عقبة ،وهناك من تُلهمه الألغاز والمتاهات وهذا دائمًا حال المتأمل في عظمة خلق الله له ولعقله وتساؤلاته عن غاية ابتلاءاته ووجوده وكمية صدقه عند الإجابة على مثل هذه التساؤلات
● في دراسة لعلماء علم النفس تقول "من المفيد ألا تكبت مشاعرك" وهذا يقودني للسؤال:
س: لماذا البوح بالمشاعر في ثقافة نساء العرب منذ الجاهلية محاط بأسوار؟ بينما نجد الرجل يبوح بمشاعره ألم تقل ليلى العامرية:
لكنّهُ باحَ بسرّ الهَوى
وَإِنّني قَد ذبتُ كِتمانا
● أتفق معك بأن هذه المعلومة صحيحة بالفعل فطبيعة المرأة حساسة ومرهفة أكثر منها مقدامة وجسورة على البوح ربما اشتركت في ذلك عدة أسباب اجتماعية وسيكولوجية تجعل من المرأة هذا الكيان المفعم بالخجل والحياء؛ ولن يعني ذلك بالضرورة عدم ولادة شواعر مختلفات بأساليب شعرهن القوية والمؤثرة كما أن رهافة الحسّ تضيف للشاعر الرجل رونقًا مختلفًا، فكذلك القوة والجرأة في البوح والطرح تجعل من شعرها وكتاباتها آسرة وخلّابة.
يقول الشاعر: بهاء الدين زهير
وما زالَ شِعري فيهِ للرّوحِ راحَة ٌ
وللقلبِ مسلاة ٌ وللهمّ مصرفُ
س: هل تتفقين فيما يرمي إليه الشاعر في هذا البيت ؟
● الشعر والتشكيل جزء لا يتجزأ من الفن بصفة عامة ؛والفن موجودٌ لغاية سامية بالإضافة للترويح عن النفس والسلوى هي صناعة الجمال وتدويره بين العقول والناس :فلافرق في منظومة الجمال بين الشاعر والمتلقي أو الكاتب والقراء أو الفنان والناقد فكلهم مسؤول عن أمانة الشفافية في النقل والوصل في هذه الحلقات التي يجب ألا تنتهي لأجل أرواحنا وعقولنا المتطلبة في عالم الجمال.
س: فالصدق كالسحر المُطَلسَمِ في فمِي!
هذا شطر لبيت من شعرك مما يلحظ بأن فيه فلسفة عميقة والفلسفة أحد العوامل التي تجعل من الشعر اكثر جودة هل تتفقين مع هذا الرأي؟
● بالتأكيد وكأن الفلسفة والعمق هي اكليل القصيدة أوقلبها النابض بالحياة حين يحملها الشاعرالمفكرعمقه ورسالته في الحياة فالقصائد بلا فكر فلسفي وعمق تبدو باهتة للقارئ الجيد ،لذلك يميز القراء شاعرا عن آخر أوكاتبا عن آخر.
هناك صنف من القراء حاضر دائما لتلقي أفكار وصور الشاعر الجمالية لأنه يفهمها جيدا أويفهمها كما ينبغي لها ولذوقه أن تتعدد القراءات فيها وكأنها تتولد من فكرة واحدة قابلة للتمدد والتجدد.
لذلك الفن موسوم بالسحر دائما.
● أنت وصفتي حالك مع حسادك بهذين البيتين
متكهّنون تنبؤوا بنهايتي
متهافتين على حديث ذهابي
وأنا سُكوني خادعٌ ومضلّلٌ
تصفُ العواصف ما مدى إعرابي
والمتنبي يقول في حساده
أنَا تِرْبُ النّدَى وَرَبُّ القَوَافي--
وَسِمَامُ العِدَى وغَيظُ الحَسودِ
س: هل تعانين من هؤلاء الحساد وأنك ما زلتِ في حالة تحدي معهم كما يعنيهم المتنبي "انا سم أعدائي" ليغيظهم؟
● يقول المتنبي:
لا بقومي شَرُفتُ بَل شَرفُوا بي
وَبِنفَسي فَخَرتُ لا بجدودي
وتقول سُكينة:
اسمِي (سُكينةُ) والأصالة توأمِي
والكبرياءُ لها جذورٌ في دمِي
س: من خلال بيت المتنبي وبيت الشعر التي أنشدتيه الا تعتقدين بأن الشاعر يصل لدرجة من الكبرياء بالتعالي على الأخرين وأنت صرحتِ بهذه الصفة في البيت؟
● قصيدة (سُكينة) لها أسباب هي بحد ذاتها كانت ردة فعل علي موقف استفز هذه الأبيات بطريقة غير متعمدة و حتى وإن كان عابرا لكن هذا الموقف العابر جعلني أطرق باب الفخر رغم أني مقلة فيه في الواقع .
أما الفخر فهو موضوع من مواضيع الشعر الجزلة والقوية التي تألق فيها شعراء الفصيح والنبط قديما وحديثا وتغنّى بها القراء هنا وهناك ،أتفق أن هناك من يصعب عليه تقبل وجه الشاعر الفخور لأن الأساليب تتباين بين جزالة الفخر ورقّة الوجداني وعذوبتة
رأيي لو لم يكن للفخر مبرّره وصدقه فيبقى على الأقل حقا مكفولا للشاعر حتى وإن لم يطرب القراء ولم يحرك شعورهم.
أما عن وجود الحساد فصدقني لابد من وجودهم ليعرف المبدع أنه على جادة النجاح الحقيقي والمستفز لهم.
● يقول بعض النقاد في بحث لهم عن الإلهام عند الشعراء " ليس للشاعر أن يقول الشعرإذا لم يلهمه ملهم وهوقول قديم لدينا نحن العرب ولدى الأمم الأخرى كاليونان."
س: هل تعتقدين بأن الشاعر الحقيقي هو الملهم الذي يجعل منه متميزاً عن غيره من شعراء النظم ؟
● إذا كنت تقصد بأن الشعراء لابد لهم من قدوة في الشعر ربما لابد لهم إن كانوا ممن يفضلون وجود عراب أدبي يدلهم على سبل الإلهام والإبداع في الشعر.
أما إن كنت تقصد أن الشاعر نفسه يجب أن يكون ملهما فبالفعل لهذا عرفنا الفن بكافة صوره ليجد القراء والمتلقون ضالتهم المنشودة في الفن أو الشعر هنا أو هناك.
● يقول الناقد الكبير الراحل الدكتور صلاح فضل أستاذ البلاغة والنقد عن ملامح الشعر الجيد للشاعر بأنه يشترط فيه بأن يمتلك الشاعرثلاثة خواص يمتلك عبقرية التركيب اللغوي الخاصية الثانية لابد أن يطلع على ثقافات أجنبية بدونها يصبح فقيرا في أخيلته ورؤاه فلابد ان يقرأ في الفلسفة وعلم النفس والرواية ويسمع موسيقى ويرى فناً تشكيلياً الخاصية الأخيرة أن يحاول الشاعر أن يتفادى الثرثرة ليكون شعره فيه إيجاز بلاغة سؤالي هو من خلال قراءتي لشعرك بأنكِ إمتلكتي الخواص التي ذكرها الدكتور صلاح فضل إضافة لكونك فنانة تشكيلية مبدعة .
س: ماهو تعليقك على ماذكره هذا الناقد الكبير؟
أنا ممتنة جدا لكرمكم وذوقكم الرفيع في تقييمكم الحاتمي لشعري المتواضع أولا
ثانيا أتفق مع الدكتور صلاح فضل فيما ذكره بخصوص مقومات الشعر الجيد وربما أضيف أو أستبدل الثانية التي تتعلق بسعة اطلاع الشاعر لتعرضه لكل ما يقوم لسانه ويمرسه في الفصاحة والبلاغة ؛يقرأ الشاعر لغيره ليفهمه ويتذوقه فيبتكر الجديد ويضيف المختلف لا ليكرر القديم ويستهلك نفس الصور فيجبر القارئ على الملل والنفور.
يجب أن يُفعِّل الشاعر عنصر التأمل فالتأمل معين الخيال الذي لاينضب فبلا خيال لا قيمة للفن كله شعرا كان أو تشكيلا كذلك توليد الأسئلة وطرق أبواب المجهول والمختلف والجديد.
س: هل أنتِ على إطلاع على الشعر العالمي وإن كنتِ على إطلاع من الذي يستهويكِ من الشعراء؟
● الحمدلله بدأت طريقي للفن والكتابة بالاطلاع علي كل مختلف ومحفز على الرغبة في مسايرة هذه الملكة المولودة والموجودة سابقا قبل الاطلاع؛ وكأن الاطلاع هو الشرارة المشعلة لإصراري على المتابعة بكافة صورها حتى تبلورت كما هي الآن بصورة الشعر غالبا قرأت لثقافات ولغات مختلفة لكني أصدقك القول لم أجد وقودًا مؤججا لشعري سوى هذه اللغة التي اصطفاها المبدع سبحانه لخير كتاب على هذه الأرض ألا وهو القرآن الكريم
اللغة العربية مميزة ومولدة للمعاني التي لاتنضب من عرفها جيدا: ستأسره منابعها العذبة، وستستهوية مقارعتها وتعاطيها ماحيي ،فتعدد أدوات الفنان والشاعر ملهمة أكثر من المصادر المحدودة وهذا بلا شك لن يتعارض مع أهمية الإطلاع على الثقافات الأجنبية ، وعادة أحب أن أذكر ملامح الشعر الذي يجذبني حتى تتعرف على ملامح من أفضل القراءة لهم حتى لا أجحف في حق أحد.
س: ألا تعتقدين بأن الفن التشكيلي السعودي مازال يحتاج لعمل اكثر ووقت لخلق بيئة أكثر ثقافة ووعيا بأهمية هذا الفن بالمجتمع؟
● أرضنا السعودية الغنية بالاختلافات والثقافات والبيئات الملهمة جعلت أبناءها الموهوبين متألقين في الساحة الفنية العربية بل وحتى الولوج للعالمية من أوسع أبوابها نظرا لما حدث من تغييرات ونهضة مواكبة لرؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
ربما تكون هناك عوامل أخرى مثل عدم انتشار ثقافة اقتناء وتقييم الأعمال الفنية السعودية من قبل الأفراد كذلك هناك عوامل أخرى لها علاقة بأهمية سفر، تنقل الفنان التشكيلي لعرض أعماله وتوسيع مداركه الفنية والاطلاع على الجديد
الفن التشكيلي السعودي مر بمراحل بدءاً من الرواد والذين وضعوا اللبنة الأولى لهذا الفن مثل الأساتذة محمد السليم وعبدالحليم رضوي وعبدالجبار اليحيا رحمهم الله وصفيه بن زقر ومنيره موصلي وأتى جيل ما بعد الرواد مثل عزيز ضياء والصبان والمغلوث والسليمان فعمر الفن لدينا لا يتجاوز السبعة عقود مقارنة ببعض الدول العربية التي لها باع طويل فيه السؤال:
س: هل أنتِ راضية لما وصل إليه الفن التشكيلي لدينا من مستوى؟
● سأجيب بنفس حديثي عن سؤالك السابق ما لمسته من تنوع ونهضة في الفن السعودي الحالي يجعلني متفائلة بمستقبل فن تشكيلي مختلف وواعد على كافة الساحات وحاضر في المحافل الفنية العالمية أيضا.
س: الخيال هو القاسم المشترك للشاعر والرسام فهوالذي يصنع للقصيدة روح كما هي الأخرى اللوحة
من تعتقدين في رأيك الذي يمتلك هذه الخاصية اكثر الرسام ام الشاعر؟
● كلاهما مالك للخيال لكن العمل الجيد شعرا كان أم تشكيلا سيحسم من امتلك منهما الخيال بشكل كبيرلاغنى للفن عامة عن الخيال لأن الخيال مداده وإكسيره الذي يمده بالتجدد والحياة.
س: هل سبق لكِ المشاركة في معارض فنية خارجية لإبراز موهبتك وإبداعاتك في الرسم؟
● لم أشارك في الحقيقة في معارض فنية خارجية أتمني إن أتيحت لي مثل هذه الفرص للمشاركة لكني شاركت في معارض محلية الحمدلله وعرضت أعمالي على أغلفة كتب ومجلات عربية ومحلية.
نحن ممتنين لكِ أستاذة سُكينة بإتاحة الفرصة لنا لإجراء هذا الحوار الشيق والممتع معك هلا أن نحضى بكلمة منكم لصحيفة النهار السعودية
كل التحايا والامتنان لحضرتك أستاذنا الإعلامي النبيل الأستاذ ،محمد الحارثي ولصحيفتكم الوارفة على هذه الحفاوة وهذا الاهتمام ؛ومزيدًا من الألق والتميّز أتمناه لكم دمتم ودامت جهودكم مكللة بالنجاحات المتوالية.

