النهار
بقلم – لواء.م. عبدالله ثابت العرابي الحارثي
كثيرًا ما نتعامل مع حياتنا وكأنها قدر محتوم لا يقبل التغيير، فنرضخ للتحديات بحجة أن هذا هو “النصيب”، أو أن “القدر” رسم لنا خطًا لا نستطيع تجاوزه. غير أن هذه النظرة مجتزأة لفهم أعمق يقرره الدين والعقل معًا، فالإيمان بالقضاء والقدر لا يعني الاستسلام وتوقف الحياة ، بل يعني الأخذ بالأسباب والسعي لإحداث التغيير، استحضارًا لقول القائل: “اسعَ يا عبدي وأنا أسعى معك”، أي أن الحركة والفعل من سنن الله في الكون.
وليس غريبًا أن نجد الأساس الشرعي لهذا المعنى حاضرًا في نصوص الدين، فقد جاءت النصوص محفزة على التفكير والتغيير، مؤكدة أن الاستسلام للعجز ليس من روح الإسلام. فالقرآن الكريم يدعو إلى التفكر والتدبر في آيات الكون، ويقرر قاعدة التغيير الذاتي بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، كما يحث على السعي والجد والعمل. وجاء التوجيه النبوي جامعًا لذلك بقوله: “احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز”. وهكذا يتضح أن التقدم والاختراق الإنساني لا يتحقق إلا بالوعي والحركة والمبادرة.
الاختراق، أو ما يُعرف بالتفكير خارج الصندوق أو الإطلالة، ليس امتيازًا حصريًا للأذكياء أو الموهوبين أو النابهين، بل هو ملكة إنسانية كامنة في كل فرد يستطيع أن يستنطقها متى شاء. إنه النقلة النوعية التي تجعل الإنسان يتجاوز وضعًا مأزومًا إلى وضع أكثر رحابة وإشراقًا. هو قفزة فكرية وإبداعية تنبع من مواجهة الذات، وتحليل العوائق، وإعادة النظر في بعض مسلمات الحياة التي اعتدنا الركون إليها.
خذ مثلًا أبًا كان يعاني من سلوكيات أبنائه غير المنضبطة، وبعد تأمل عميق اكتشف أن المحيط الاجتماعي والبيئة المحيطة بهم هي أحد أهم أسباب تلك السلوكيات. فقراره بالانتقال إلى حي آخر كان بمثابة “اختراق” غيّر مسار حياتهم: أصدقاء جدد، مدارس مختلفة، جيران آخرون، وكانت النتيجة تحوّلًا نوعيًا في سلوك الأبناء. وعلى هذا فقِسْ مختلف المشكلات والتحديات التي يواجهها الإنسان.
الاختراق لا يأتي عفوًا أو صدفة، بل يحتاج إلى جهد دؤوب، وهمّة صادقة، ورغبة قوية في التطوير. يحتاج إلى عين ناقدة ترى ما وراء المألوف، وإلى عقل شجاع يعيد ترتيب الأولويات ويقف بثبات أمام العوائق.
نحن بحاجة إلى تحرير مفهوم الاختراق من الصورة النمطية التي تجعله سمة نخبوية لا يقدر عليها إلا قلة من الناس. فالحقيقة أن كل إنسان، أيًا كان، قادر على أن يُحدث في حياته اختراقًا نوعيًا متى ما استحضر إيمانه بالله، واستعان بعقله، وأطلق العنان لأفق تفكيره.
فالاختراق ليس مجرد فكرة تنظيرية في كتب الإدارة أو المؤسسات الكبرى، بل هو ممارسة حياتية يومية يمكن أن تغيّر ملامح الفرد والمجتمع معًا. ومن يواجه مشاكله بتفكير متجدد يفتح أبوابًا لم يكن يتوقعها، ويصنع من التحديات فرصًا، ومن الضيق فرجًا.