النهار
بقلم - د. أحمد بن سعد بن غرم الغامدي
إن التجديد سنة من سنن الله في الوجود، فهو لا يقتصر على المادة والحياة، بل يتجاوزهما إلى الفكر والوعي والدين. فكما تتجدد مظاهر الطبيعة مع تعاقب الفصول، كذلك تتجدد طرائق الفهم والتعبير بما يحفظ المعنى الإلهي الخالد في صورة تتلاءم مع الوعي الإنساني المتغير. والتجديد في الدين ليس تبديلاً لأحكامه ولا تأويلاً لمعانيه بما يخالف مقاصده، بل هو إحياء ما اندرس من معالمه، واستعادة نوره في العقول والقلوب، وصيانته من الغبش والجمود والتحريف. إن الله جل وعلا أراد لهذا الدين أن يبقى حيًّا في النفوس، متحركًا في الحياة، متجدداً في وسائله، ثابتًا في مقاصده، فقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 26].
وقد جاء في الحديث الصحيح قوله ﷺ: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها». فالتجديد إذًا وعد إلهي بحفظ الدين من الجمود والضياع، وبعث الحياة في الأمة كلما غلبت عليها التقليدية أو طمست الغفلة معالم وعيها.
والخطاب الإسلامي هو الوسيلة الأولى التي تنقل رسالة الإسلام من الوحي إلى الوعي، ومن النص إلى الواقع، ومن الفكرة إلى السلوك. وهو لذلك ليس كلامًا يُلقى على الناس فحسب، بل منظومة من البيان والفكر والموقف، تعكس فهمًا صحيحًا للدين، وإدراكًا عميقًا للإنسان، ووعياً تامًا بالزمن. والإسلام في جوهره لا يعرف الانفصال بين العقيدة والشريعة والسلوك والسياسة، فهو بناء واحد متكامل، قاعدته التوحيد، وعماده العدل، وغايتُه الإصلاح والرحمة. قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف: 40]. فلا سياسة بلا عبادة، ولا عبادة بلا عدل، ولا عدل بلا هداية.
وإذا كان لكل عصر خصائصه اللغوية والمعرفية والنفسية والاجتماعية، فإن من مقتضى الحكمة أن يكون لكل عصر خطابه الذي يناسبه ويعبّر عن قيمه في لغته. فالخطاب الذي وُجّه إلى عقل البادية في صدر الإسلام لم يكن ليؤثر بنفس الصورة في عقل المدينة الحديثة، وإن اشتركا في المقصد والمعنى. فأساليب الإقناع تتبدل، كما تتبدل طرق التعليم والإرشاد والإعلام، غير أن الجوهر باقٍ لا يتغير. ولهذا كان تجديد الخطاب الإسلامي في عصرنا ضرورة، لا بمعنى تبديل أحكام الشرع، وإنما بمعنى تجديد طريقة العرض والبيان، وإعادة صياغة الحقائق بلغة الناس اليوم، لغةٍ تمزج بين العقلانية والإحساس، وتخاطب الفطرة والعلم معًا.
وفي علم اللغة، الخطاب هو تفاعل بين المتكلم والسامع، يتجاوز الألفاظ إلى المعاني، ويتجاوز المعاني إلى التأثير. ومن هنا فإن الخطاب الإسلامي لا يكتفي بالإبلاغ، بل يسعى إلى التكوين، وإلى غرس الإيمان في الوجدان لا في الأسماع فحسب. والبلاغة القرآنية كانت دائمًا معجزة في هذا الباب، إذ جمعت بين صدق المضمون وجمال الصورة وقوة الإقناع. قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]. فهذه الآية تختصر فلسفة الخطاب الإسلامي كله: الحكمة عقل، والموعظة قلب، والمجادلة حوار، وكلها تؤدي إلى الهداية.
إن الخطاب الإسلامي الذي نحتاجه اليوم ليس صدى لخطابات الماضي، ولا استجابة عاطفية لثقافة العصر، بل هو خطاب يجمع بين أصالة النص وروح التجديد، بين الثبات في الأصول والمرونة في الوسائل، بين الشدة على الباطل واللين في الدعوة. وقد قال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام وهما مقبلان على أعتى طاغية: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44]. فكيف بالمؤمنين فيما بينهم؟!
وفي علم النفس التربوي، الخطاب المؤثر هو الذي يلبي حاجات الإنسان الأساسية: حاجته إلى الفهم، وإلى الانتماء، وإلى الطمأنينة، وإلى القيمة. فإذا لبّى الخطاب الإسلامي هذه الحاجات بصدق ورحمة، استقرت العقيدة في النفس، واطمأن القلب للإيمان، كما قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]. أما إذا جاء الخطاب جافًّا منغلقًا أو متعاليًا على الواقع، فإنه لا يُنتج إلا النفور والانغلاق، ويحوّل الدين إلى شعارات لا أرواح فيها.
وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن الخطاب الإسلامي المتجدد يجود الحياة بكل تحسين، ويصنع توافقًا بين الروح والمادة، والدنيا والآخرة، ويلبي احتياجات الروح والنفس والعقل والجسد بمراعاة الحال والزمان والمكان والمقال. فهو لا يفصل العبادة عن العمل، ولا الروح عن الجسد، بل يجعل الإيمان طاقة بناءة تدفع إلى الخير والإبداع والعطاء. قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97].
ومعالم الخطاب الإسلامي الجديد تتمثل في الشهادة التي تُظهر الحق وتقوم به الحجة: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143]، وفي البشرى التي تبعث الأمل وتستنهض النفوس: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 112]، وفي النذارة التي توقظ القلوب من غفلتها: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [فاطر: 24]، وفي اللين الذي يفتح مغاليق القلوب: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: 159]، وفي حسن المجادلة الذي يُحيل الخلاف إلى حوار راقٍ: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125].
وإن من تجديد الخطاب في عصرنا أن يُوصَل إلى العالمين بكل لغاتهم وثقافاتهم، فيُترجم معناه بلسان كل أمة، ويُعرض بروح تُحسن البيان والابتسام والتأثير. إن العالم اليوم يتحدث بلغات كثيرة، ولكن اللغة الإنسانية واحدة، هي لغة الكلمة الطيبة التي تنبع من قلب مؤمن. قال ﷺ: «الكلمة الطيبة صدقة» (رواه البخاري). وبالكلمة الرقراقة الحانية، والعبارة الجميلة الباهية، والابتسامة البهيجة الفرِحة، يمكن للإسلام أن يدخل القلوب قبل أن يسمعه اللسان.
إن الخطاب الإسلامي الأصيل لا يكتفي بأن يصيب الحق، بل يسعى لإيصاله إلى الحقيقة، فليس المقصود مجرد الصواب الجدلي، بل الهداية والإقناع، وتكوين وعي قائم على الفهم لا على التقليد، وعلى الحب لا على الخوف، وعلى المشاركة لا على الانغلاق. قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]، وهذه الوسطية ليست موقعًا بين تطرفين فحسب، بل توازنٌ بين حقائق الوجود كلها: بين الإيمان والعلم، وبين الغيب والشهادة، وبين الفرد والمجتمع، وبين النص والاجتهاد، وبين الثبات والتطور.
وهكذا فإن الخطاب الإسلامي المتجدد هو الذي يُعيد للدين روحه الأولى، ويُقدّمه للناس كما نزل أول مرة: رحمة وعدلاً ونورًا. يجمع بين أصالة الرسالة وكفاءة الوسيلة، بين صفاء التوحيد وحكمة البلاغ، فيُخاطب الإنسان كلّه: قلبه وعقله، روحه وجسده، ضميره وواقعه. وهو بذلك يحقّق قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].