الكاتب : النهار
التاريخ: ١٠:٤١ م-٢٣ أغسطس-٢٠٢٥       6655

بقلم: د.أماني عبدالوهاب *
على شاطئ البحر الأحمر، لا تُبنى الأبراج فقط، بل تُبنى كذلك أنظمة وقوانين غير مسبوقة، في مدينة أرادت أن تسبق العالم نصف قرن إلى الأمام " نيوم"،  ليست نيوم مجرد مشروع عمراني أو استثماري   بل هي مختبر مفتوح للتشريعات، حيث تُختبر قدرة القانون على ملاحقة الخيال الإنساني، والتكيف مع واقع يتغير بسرعة الضوء.
في العالم، اعتدنا أن تولد المدن من رحم القانون، ثم تنمو وفق حدوده وضوابطه، أما في مدينة نيوم السعودية،  فالقانون ذاته يولد من رحم المدينة، حيث لا يُعاد إنتاج ما هو مألوف، بل تتم صياغة أنظمة خاصة، تعكس هويةً جديدة، وتجيب عن سؤال المستقبل: كيف يمكن للقانون أن يواكب المدن الذكية، والاقتصاد القائم على الابتكار، والتقنيات التي لم يتم تجربتها بعد؟

القانون كمعماري خفي

في المدينة الواعدة " نيوم" ، لا يقف القانون خلف المكاتب واللوائح الجافة، بل يعمل كالمعماري الخفي الذي يرسم حدود التفاعل بين الإنسان والآلة، بين المستثمر والدولة، وبين الحرية والتنظيم، فالأنظمة في تلك المدينة ليست عبارة عن نصوص تنظيمية، بل هي عقد اجتماعي جديد، يُبنى على الانفتاح والمرونة، ليضمن أن تكون البيئة القانونية جزءًا من البنية التحتية للمدينة، مثلما هي الطرق والجسور والاتصالات.

نيوم والنموذج القانوني المستقل

ما يميز نيوم أنها تسعى لأن تكون منطقة ذات أنظمة خاصة، أشبه بجزر قانونية داخل النظام السعودي الكبير، هذه المرونة تتيح لها جذب واستقطاب العديد من الاستثمارات العالمية، وتبني تشريعات مستحدثة تراعي وتنظم استخدام الذكاء الاصطناعي، والطاقات المتجددة، والتقنيات الحيوية، إنها تجربة قانونية تُماثل التجارب الرائدة في "سنغافورة" أو "هونغ كونغ"، لكن بنكهة سعودية، ورؤية لا تقل طموحًا عن أن تكون في طليعة العالم.

بين الطموح والتحدي

التحدي القانوني هنا ليس في كتابة النصوص فقط، بل في صياغة تشريعات تتسم بالمرونة لتستوعب المستقبل، وفي الوقت نفسه تتمسك بجذورها النظامية والشرعية السعودية، فكيف نوازن بين العالمية والمحلية؟ وبين الطموح الجامح والضوابط الحاكمة؟ هذا هو السؤال الذي يجعل التجربة القانونية في نيوم محط أنظار خبراء القانون حول العالم.
إن التجربة القانونية في نيوم تقوم على معادلة دقيقة تجمع بين الانفتاح على العالم والحفاظ على السيادة الوطنية، وبين التوسع الطموح والحفاظ على النظام، هنا، لا يكون القانون مجرد نصوص جامدة، بل قوة خفية تشرف على التوازن بين كل الأطراف، حيث تعتمد نيوم على إطار قانوني خاص يمنحها استقلالية نسبية عن بقية المناطق، مع احترام الأنظمة الوطنية العليا، هذا الإطار يسمح بتبني أفضل الممارسات العالمية في الاستثمار والتقنية والطاقة، مثل التحكيم الدولي، وحماية المستثمر، وتشريعات البيانات، دون أن تتعارض مع سيادة النظام السعودي.

وفي الوقت نفسه، صُممت الأنظمة القانونية بمرونة حتى تواكب التطورات التقنية المستمرة، من الذكاء الاصطناعي إلى الروبوتات، مما يمنح المدينة القدرة على الابتكار والطموح دون أن تتعثر في قيود تنظيمية قديمة أو تقليدية.

ولكن الطموح الكبير لا يعني التفريط في الحقوق أو القيم الوطنية؛ فهناك ضوابط صارمة تحمي المواطنين والمستثمرين على حد سواء، ويجمع نظام العدالة بين التحكيم الدولي والمرجعية القضائية الوطنية، ليضمن أن يظل التوازن حاضرًا بين الانفتاح على العالم والالتزام بالمعايير المحلية، ولا يكتمل هذا التوازن إلا عبر آليات المراقبة والتقييم المستمرة لكل تشريع يتم تطبيقه، لضمان أن التنمية لا تأتي على حساب النظام العام أو البيئة أو المجتمع، ما يجعل المدينة نموذجًا عالميًا يُدرس، بينما تظل متجذرة في الإطار القانوني الوطني.

حماية المستثمر والمواطن والقوانين الدولية

المستثمر الأجنبي: كيف سيُحمى إذا نشأ نزاع؟
إن نيوم تتبنى نظام تحكيم مستقل وعالمي ليكون ضمانة للمستثمرين الأجانب، بما يعكس ثقة المدينة في أنظمتها القانونية وقدرتها على إدارة النزاعات بكفاءة وحيادية، وهذا يشمل هيئات تحكيم دولية أو محاكم خاصة مستقلة، تُعطي المستثمرين الأجانب إطارًا قانونيًا مأمونًا للفصل في النزاعات، بعيدًا عن أي بيروقراطية قد تعيق الاستثمار، كما تُصاغ العقود الاستثمارية بعناية فائقة لتوضح الحقوق والواجبات والضمانات بما يمنح المستثمرين ثقة قانونية كاملة قبل الدخول في أي مشروع، ويقلل المخاطر المحتملة لذا فإن "نيوم"  تُحوّل الاستثمار من مجرد مخاطرة إلى فرصة قانونية محمية، ما يجعلها بيئة جاذبة لرؤوس الأموال العالمية.
المواطن السعودي: هل تُهمش حقوقه؟

على العكس تمامًا، المواطن السعودي هو المستفيد الأول من تجربة نيوم النظامية، حيث يضمن له النظام الوصول إلى فرص العمل في مختلف القطاعات الجديدة، سواء في التكنولوجيا، الطاقة، أو الخدمات الذكية، مع حماية كاملة لمبدأ المساواة، كذلك بالنسبة للحقوق الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم والبيئة، كلها محمية ضمن إطار تشريعي يوازن بين الانفتاح على الاستثمار ورفاهية المجتمع المحلي، بمعنى آخر، النظام القانوني في نيوم لا يَنظر إلى المواطن كأداة لتسهيل الاستثمار فقط، بل كضمانة لحمايته وتحقيق العدالة الاجتماعية، بحيث تكون التنمية متوازنة ومستدامة.

القوانين الدولية هل تتعارض مع النظام السعودي؟
نيوم توظف أفضل الممارسات العالمية دون المساس بسيادة الدولة، من خلال إدماج القوانين والمعايير الدولية بذكاء، بحيث تستفيد المدينة من خبرات وتجارب عالمية في الحوكمة، في حماية المستثمر، وحقوق الإنسان، والبيئة، ضمن الإطار القانوني الوطني السعودي، وهذا بدوره يخلق توازنًا فريدًا بين العالمية والمحلية، حيث يمكن جذب الاستثمارات العالمية وتطبيق المعايير الدولية، دون أن تفقد الدولة سيادتها أو تتنازل عن قيمها، والنتيجة هي خلق نموذج قانوني مبتكر، يجمع بين الشفافية، والحماية القانونية والانفتاح على العالم، ما يجعل نيوم تجربة فريدة من نوعها.

مدينة تُشرّع الحلم

في النهاية..نيوم ليست مشروعًا استثماريًا عابرًا، بل رواية تُكتب بقلم القانون قبل أن تُخطها حجارة الأبراج، إنها مدينة تُشرّع للحلم، وتعيد صياغة العلاقة بين المكان والإنسان والقانون، وربما بعد عقود سيقول المؤرخون إن المملكة العربية السعودية لم تُشيد مجرد مدينة مستقبلية، بل ابتكرت مدرسة قانونية جديدة، جعلت من نصوص التشريع جسورًا تعبر إلى الغد.

*مستشارة قانونية معنية بتحليل البعد التشريعي للتنمية في قضايا الاستثمار والأنظمة السعودية