بقلم: لواء.م /عبد الله ثابت العرابي الحارثي
في تراث النكتة العربية الذكية، والتي طالما استخدمت كأداة ساخرة لتحليل القضايا الاجتماعية المسكوت عنها، يُروى أن أسدًا استيقظ في غابة ذات صباح فوجد نفسه موثَّق اليدين والرجلين، تفاجأ وسأل: من قيدني؟ فجاءه صوت كلب – أجلكم الله – يقول: “أنا من فعل، ولن أطلقك حتى تموت”
ثم مضى الكلب مختالًا، فمرّ حمار، ورأى المشهد، فعرض على الأسد فك قيده مقابل نصف الغابة، وافق الأسد، وما إن نهض حتى قال للحمار: “لقد غيّرت رأيي”
ثار الحمار محتجًا، فابتسم الأسد وقال: “غابة يُربط فيها كلب، ويُفك فيها حمار… لا تستحق العيش فيها، فهي لك.”
طرفة مُرة؟ ربما، لكنها مرآة ساخرة لمشهد يتكرر في مجتمعاتنا ومجالسنا، حين يغيب أهل الحكمة، فيرتفع صوت السفهاء، وحين ينسحب العقلاء، يملأ المكان من لا يملك زاد الرأي، ولا أدوات الحضور، ولا خُلق الكلمة.
في زمنٍ التبست فيه القيم، وصارت الألسنة تتقدم على العقول، أصبح مألوفًا أن ترى اجتماعات تُدار بغير أهلها، ومجالس يعلو فيها صخب من لا حجة لهم إلا الجرأة على الخطأ، وحين يستقيل العقلاء، يفسحون المجال للحمقى ليملؤوه ضجيجًا وتفاهة.
المؤسف أن بعض العقلاء يتصور أن الانسحاب من هذه المجالس أدبٌ أو نُبل، بينما الحقيقة أن الصمت يمنح السفيه سلطة لا يستحقها، والغياب يشرّع للجهلاء أن يتصدروا.
الحكمة ليست في ترك الساحة لهم، بل في مواجهتهم بالحق، وتعزيز الرأي الرصين، وصون هيبة الكلمة، فالصمت ليس دائمًا أدبًا، بل قد يكون تقصيرًا، والانسحاب ليس دائمًا حكمة، بل قد يكون تفريطًا في الوعي.
الغابة التي لا يحرسها الأسد يملأها العواء والنهيق، والمجلس الذي يغيب عنه العقلاء، يتصدره الحمقى.
إن المجالس – صغيرة كانت أو عامة – تحتاج إلى صوت العقل، وحضور الرؤية، وتوازن الخطاب، ولا يُعيد لها مكانتها إلا أهلها، ولا يصونها إلا من يملكون الحجة والخلق معًا.
فلنحذر أن تتحول مجالسنا إلى غابة يشبه حالها غابة الأسد… حين يُقيد فيها الحُر، ويُطلق فيها من لا يُحسن إلا الفوضى.ر