

بقلم- الصادق جادالمولى
هناك جغرافيا تصنعها الخرائط وهناك جغرافيا تنحتها الدماء؛ وبين الرياض ودمشق لم تكن المسافة طريقًا مرسومًا على ورق إذ لطالما كانت شريانًا يمرّ عبر الذاكرة والوجدان، وحين دخل الوفد السعودي إلى دمشق في السادس والعشرين من يوليو بدا وكأنه يعيد وصل شريان قُطع لسنوات طويلة، ليضخّ في الجسد السوري دفعة ودفقة حياة جديدة.
لم يحمل رجال الأعمال السعوديون إلى العاصمة السورية أوراق استثمار ومشاريع فحسب وإنما حملوا قبل ذلك رسالة أوضح من الأرقام: أن الأخوة العربية ليست جملة شعرية وأن ما يجمع المملكة وسوريا لا تحدّه حسابات السياسة ولا تغيّره الأعوام، وفي قاعات التوقيع جرى إبرام 44 اتفاقية تجاوزت قيمتها 6 مليارات دولار تتوزع بين الطاقة والإسكان والاتصالات والخدمات المالية، تدفق الأرقام على الورق غير أن ما كان يتدفق في العمق هو معنى آخر: أن عودة سوريا إلى قلب محيطها تبدأ بيد تمتد من الرياض.
وباعتقادي ستة مليارات دولار ليست مجرد استثمارات بقدر ما هي وعد بإعادة ترتيب المشهد السوري من تحت الركام، والخمسون ألف وظيفة مباشرة وأكثر من مئة وخمسين ألف وظيفة غير مباشرة هذه أرقام تحمل في طياتها شيئًا أبعد من الاقتصاد، وأقرب لمحاولة سعودية شهمة لوقف النزيف الذي أنهك المجتمع، ولإعادة بث الروح في بلد يعرف أن الحرب لا تهدم الجدران فقط إنما تهدد فكرة الحياة ذاتها.
ودمشق التي شهدت هذه اللحظة لم تكن مدينة تستقبل استثمارات جديدة كانت مدينة تفتح بابًا للتاريخ كي يمر من جديد، والمملكة التي مدت يدها لم تر في سوريا سوقًا تحتاج إلى مشاريع بل رأت في سوريا رئة للمنطقة كلها، فعندما تنهض دمشق يتنفس الإقليم وعندما تعود الحياة إلى شوارعها تُستعاد ذاكرة المشرق الذي فقد صوته طويلًا، لا يمكن للأرقام وحدها أن تكتب هذا المشهد، فهناك ما هو أعمق من العقود والصفقات، وهناك شعور أن الدم الذي جرى في حروب الهوية العربية يرفض أن يجف، وأن العروة القديمة بين البلدين يمكن أن تتحول إلى جسر جديد يعيد للمنطقة توازنها، فكل استثمار هنا ليس رأسمالًا ماليًا فحسب إنما رأسمالًا عاطفيًا وتاريخيًا يراهن على أن البناء الحقيقي يبدأ حين تتشابك الأيدي قبل أن تتشابك المصالح.
وفي دمشق أيضًا لم يكن الحديث عن الإسمنت والحديد وحسابات الربح والخسارة فقط بقدر ما كان هناك حديث صامت عن ذاكرة البيوت التي تهدمت، وعن أطفال ينتظرون مستقبلًا أقل قسوة وعن وطن يحتاج إلى من يذكّره أنه ما زال جزءًا من قلب عربي نابض، وفي كل توقيع كان صدى لرسالة تقول إن الإعمار ليس إعادة بناء الحجر إنما إعادة بناء الثقة.
اليوم، وبينما تتحدث الصحف عن المليارات والعقود هناك حقيقة أبسط وأقوى تتشكل وهي أن السعودية وسوريا ليستا أمام صفقة اقتصادية بق أمام امتحان أخلاقي وتاريخي: هل يمكن لأمة أن تعيد لملمة أطرافها؟ هل يمكن للدم الذي سال أن يتحول إلى جسر نحو المستقبل؟ الإجابة لم تُكتب بالكامل بعد لكنها بدأت تُرسم في السادس والعشرين من يوليو بحبر سعودي على صفحات دمشقية، وستظل الأرقام تتصدر العناوين: 6 مليارات و44 اتفاقية و50 ألف وظيفة، غير أن ما سيبقى في الذاكرة ليس الأرقام وحدها إنما تلك اللحظة التي قالت فيها الرياض لدمشق: الطريق طويل لكنه يبدأ بخطوة والخطوة الأولى تبدأ دائمًا من عروة دم لا تعرف الانقطاع!