الكاتب : لواء م عبد الله ثابت العرابي الحارثي
التاريخ: ٢٢ يوليو-٢٠٢٥       8470

بقلم: اللواء م. عبدالله ثابت العرابي الحارثي

لا شيء يكشف الإنسان مثل أن يكتب نفسه، لا كما يراه الناس، بل كما يدركها هو بعد أن يخلع ضجيج الحياة.

أن تتأمل عمرك ككتاب مفتوح، وتسأل نفسك: ما الذي يستحق أن يُروى؟ وما الذي يجب أن يُمحى؟

ليست هذه تساؤلات عابرة، بل مفاتيح لما هو أعمق: شهادة ذاتية لا تحتاج لتصفيق، بل لصدق مجرد.

حين يكتب الإنسان نفسه بعيدًا عن الزيف والمجاملة، وأمام مرآة الحياة، لا ليصف شكله، بل ليشهد على أثره.

في هذا الكتاب الافتراضي، لا أبحث عن بطولة ولا عن تمجيد. أبحث عن صدق… عن ذلك الحضور الهادئ الذي لا يحتاج إلى ضجيج.

عن أثر يشبه النسيم، لا يُرى… لكنه يُشعر.

عنوانه ليس صدى مجد زائل، ولا تلويحة وداع متكلفة، بل عبارة وُلدت من تأمل طويل.

أنا لم أكتب كل التفاصيل… بل صاغتني الأقدار وسلوكيات الحياة بعد إذن الله.

هي من علمتني، وربّتني، وسألتني، وأجابتني، وكتبتني… لا كما أردت، بل كما شاء الله.

في بعض الصفحات سأكتب بفخر.

عن المرات التي لم أحنّ فيها قيمي رغم الإغراءات،وعن وقفات قلبي فيها انحاز للحق، حتى وإن تكسر ظهري بعدها.سأروي عن لحظات ساندت فيها الآخرين دون انتظار شكر، وعن مواقف تجنبت فيها الرد على الإساءة… ليس ضعفًا، بل احترامًا لما أؤمن به.

سأكتب عن المحبة التي منحتها بصدق، وعن الصبر الذي ظللت به أيامي الثقيلة، وعن انتصارات صغيرة… لا تُذكر في المجالس، لكنها في ميزان الروح أعظم من التصفيق.

لكن… ليس كل ما في القلب يُقال.

هناك صفحات لا تُروى، لا لأنها مشينة، بل لأنها موجعة.لا يليق بها النشر، بل الدعاء.

فيها ذنوب  لا أريد لأحد أن يراها،وسقطات لم تكن ضعفًا في المبدأ، بل لحظة تعب لم تحتمل. فيها خيبات أمل ما زلت أداويها، وأمنيات خُلقت لتظل أمنيات… تلك الصفحات الله وحده يعلم ما وراءها، ويسترها بكرمه لا بأعمالي.

ما أريد أن يبقى… هو ما لا يموت برحيلي:

أثر كلمة صادقة في قلب محتاج،ذكرى طيبة في دعاء غائب،موقف نقي يرويه أحدهم بعد سنوات ليواسي به نفسه.أريد أن أرحل ويظل اسمي خفيفًا على الذاكرة… لا يُثقل أحدًا ولا يُنسى بسهولة،فقط كظل شجرة مرّ بها أحدهم يومًا فاستراح… ثم واصل طريقه.

أما ترتيب الفصول… فلا أعطي للمناصب ولا الألقاب الصفحات الأولى.البداية يجب أن تكون للقيم، للمبادئ التي صنعتني، للرحلة قبل الوصول، للنية قبل الإنجاز. أُؤخر المشهد المهيب، وأُقدّم المشهد الصامت.فلا فائدة أن يعرف الناس ما فعلت، إن لم يعرفوا لماذا فعلته.ولا حاجة لأن تُذكر الأفعال… إن لم تكن شاهدة على صدق النية.

وأما ما أتحفظ في حمله من الصفحات، فهي تلك التي كتبها الآخرون عني.لا لأن آراءهم لا تهمني، بل لأن ما يُقال عن الإنسان لا يكشف حقيقته،كما يكشفها ما يفعله في الخفاء، وما يتركه من أثر لا يحتاج إلى تعليق.أقدّر من يرى فيّ خيرًا، وأحترم من أنصف، وأستفيد ممن نصح،لكن صفحات كتابي الحقيقي… هي ما كتبه سلوكي، لا ما دوّنته الظنون.

وحين يقرأ الآخرون هذا الكتاب بعد رحيلي،

أتمنى ألا يقولوا فقط: “كان فلان”، بل أن يشعروا أن ما قرأوه يمسّهم،يضيء فيهم شيئًا، ويُلهمهم ليكتبوا كتبهم هم… بصدق، وبلا زيف.

ويا صديقي…

لو كانت قصة حياتك كتابًا، فما العنوان الذي كنت ستختاره؟

وما الذي ستكتبه فيه من محتوى وذكريات؟

وما الذي كنت ستُبقيه؟

وما الذي كنت ستحذفه خشية أن يراه الناس؟

ذلك الذي لم يمنعك منه خجلك من خالقك، ولا حياؤك من الله، لكنه أرعبك فقط أن يُكشف أمام الناس.