الكاتب : النهار
التاريخ: ٠٦:٠٩ م-١٤ يوليو-٢٠٢٥       9075

بقلم/ د. خالد بن يحيى القحطاني

في زمن باتت فيه المدرسة أكثر من مجرد قاعة وصف ومعلّم ومنهج، أصبحت الأسئلة التي تُطرح حول البيئة التعليمية أكثر عمقًا من ذي قبل. كيف نُعلّم؟ نعم. لكن أين نُعلّم؟ وكيف يؤثّر المكان على التجربة؟ في قلب كوبنهاغن، العاصمة الدنماركية، تقف تجربة Orestad Gymnasium كشاهد على كيف يمكن للعمارة أن تتحوّل من فن بصري إلى أداة تعليمية تغيّر مصير أجيال.

المدرسة ليست مجرد مبنى تعليمي تقليدي، بل رؤية حديثة مجسّدة في كيان معماري مبتكر، صُمّم ليواكب احتياجات التعليم المعاصر، ويحفّز الإبداع، ويعيد تعريف العلاقة بين الطالب والمعلم، وبين الإنسان والمكان.

Orestad Gymnasium هي مدرسة ثانوية أُسست عام 2007 . المدرسة تستقبل حوالي 900 طالب وطالبة، وتقدّم برامج متقدمة في الإعلام الرقمي، والتصميم، والعلوم الإنسانية. تم تصميم المبنى من قبل المكتب المعماري الدنماركي الشهير 3XN، وجاءت الفكرة التصميمية لتُجسّد فلسفة تربوية قائمة على الانفتاح، والمرونة، والتعلّم التشاركي.

بمجرد دخول الطالب إلى المدرسة، جد أمامه فراغًا مركزيًا ضخمًا مفتوحًا على امتداد أربعة طوابق، يدور حوله المبنى في شكل حلزوني. السلالم لا تؤدي فقط إلى الطوابق، بل تُستخدم كمقاعد ومدرّجات للعروض والنقاشات والتجمّعات الطلابية. لا توجد فصول دراسية مغلقة كما في المدارس التقليدية، بل فضاءات تعليمية مرنة، تفصلها جدران زجاجية قابلة للحركة، ما يجعل من كل زاوية في المدرسة فرصةً للحوار أو التعلم أو الإبداع.

الابتكار المعماري لا يتوقف عند الشكل، بل يتغلغل في كل تفصيلة وظيفية. تم تصميم المساحات لتتيح للطالب اختيار المكان الذي يتعلم فيه بناءً على المهمة التي يؤديها، سواء كانت فردية أو جماعية. كل الطوابق مفتوحة على بعضها، ما يعزز الإحساس بالانتماء والمراقبة الذاتية، ويذيب الحواجز بين المراحل الدراسية. الضوء الطبيعي يغمر المبنى من كل الجهات، مما يحفّز النشاط الذهني ويقلّل الحاجة للإضاءة الصناعية.

حتى الرياضة والطعام ليست أنشطة ثانوية، بل جزء من التجربة التعليمية. تم دمج الصالة الرياضية داخل السياق البصري للمدرسة، ويمكن رؤيتها من أي طابق تقريبًا، ما يُضفي طابعًا ديناميكيًا على اليوم الدراسي ويشجّع على الحركة. كذلك، تم تصميم منطقة تناول الطعام كمكان مفتوح للتواصل والتفاعل، حيث يُمكن للطلبة والمعلمين تناول وجباتهم والتحدث ومراجعة الدروس في أجواء غير رسمية، تكسر الحواجز التقليدية في المدرسة.

المعلم في Orestad Gymnasium ليس مجرّد ناقل للمعلومة، بل شريك في عملية تعلّمية مستمرة. لا منصة ولا طاولة تقليدية. بل تفاعل دائم، وتنقّل بين المجموعات، وتيسير للنقاشات، وتوجيه لمشاريع ذات طابع عملي. أما الأهل، فهم جزء من نسيج المدرسة. تتم دعوة الأسر إلى الفعاليات، وتُشرك المدرسة أولياء الأمور في فهم فلسفتها، ومتابعة تطوّر أبنائهم ضمن بيئة شفافة ومفتوحة، المدرسة تؤدي دور اجتماعي هام خارج اوقات الدراسة للحي وللمنطقة بأكملها، أصبحت جزء من نسيج المجتمع ككل.

تجربة الطالب هنا تبدأ من لحظة دخوله إلى المبنى صباحًا، حيث يمر عبر الساحة المفتوحة، ويتناول إفطاره في المساحة العامة، ثم يتنقل بحرية بين المناطق التعليمية، يختار مكان دراسته-بتيسير دائم وتوجيه من معلميه-ويبدأ يومه ضمن برنامج مرن يُشجّع على المسؤولية الفردية والعمل الجماعي. تنتهي يومه بأنشطة رياضية، أو عروض طلابية، أو لقاءات نقاشية. واللافت أن المدرسة تتعامل مع كل لحظة في اليوم باعتبارها فرصة تعليمية: وقت الطعام، وقت الحركة، وقت الراحة، كلها مدمجة ضمن نموذج تربوي متكامل.

المدرسة حصدت جوائز معمارية مرموقة، منها جائزة التصميم الفضية من AR عام 2008، كما رُشّحت لجوائز MIPIM العالمية للمباني التعليمية المستدامة، وتُعدّ واحدة من أكثر المدارس تصويرًا في المجلات المعمارية العالمية. وقد أثمرت هذه الرؤية عن نتائج ملموسة؛ فقد فاق أداء الطلبة المعدل الوطني بنسبة 17%، وبرز العديد منهم في مسابقات علمية وفنية وريادية، كما انتقل بعضهم لتأسيس مشاريع ابتكارية في مجالات الإعلام والتقنية.

التجربة ليست معمارية فقط، بل منظومة متكاملة تحتضن الطالب من كافة الجوانب: فكريًا، جسديًا، اجتماعيًا، وعاطفيًا. وهنا تبرز المفارقة مع واقع العديد من المدارس في العالم العربي، حيث لا تزال البيئة المدرسية حبيسة الصندوق الإسمنتي، حيث الصفوف المغلقة، والجدران الصماء، والمساحات الميتة، وكأننا نُربّي العقل في بيئة تعاند الحواس.

تجربة Orestad Gymnasium تقدم لنا درسًا بالغ الأهمية: العمارة التعليمية ليست ترفًا بصريًا، بل شرطٌ من شروط جودة التعليم. المدرسة ليست حاوية طلاب، بل حاضنة عقول. وكل متر مربع فيها يجب أن يكون محفّزًا على التفكير والانتماء والاكتشاف.

في الختام، لعل أنسب ما يُختتم به هذا المقال هو القول بأن  “البيئة المدرسية هي المعلّم الصامت، الذي يُدرّس دون أن يتكلم.” وإن كانت لدينا رغبة صادقة في إصلاح التعليم، فلنبدأ من الجدران التي تحيط بالتعلّم، لأنها ليست فقط ما نراه… بل ما يشعر به الطالب، ويؤمن به، ويصبح عليه