الكاتب : النهار
التاريخ: ٠٤:١٢ م-٠٨ يوليو-٢٠٢٥       39765

بقلم- الصادق جادالمولى

في قرية تُدعى الفشاشوية ترقد على الضفة الغربية من النيل الأبيض بجمهورية السودان كان الصمت واسعًا كالمساء، والحقول تُقسم يومها بين زراعة الذرة وإنصات طويل لتلفزيون قديم، وفي ظهيرة هادئة انبعث صوتٌ عبره لم يكن نشيدًا ولا خطبة، كان شعرًا وصوت يتهادى على سمع القرية كنَفَس جبليّ قادم من بعيد كان ذلك صوت صاحب السمو الملكي والشعري خالد الفيصل، لم أكن حينها أعرف من يكون، لكنني أدركت أن هذا الحرف قادم من مكان مختلف، من أعالي الذائقة، ومن قلبٍ يعرف كيف تُقال الأشياء دون أن تُزخرف، توقفت عند نبرته، وتشبثت بها، بدا وكأن الكلمات قد سبقت سنّ إدراكي، لكنها لم تضل طريقها إليّ.

ومنذ ذلك اليوم بقي اسم خالد الفيصل في ذاكرتي كأثر لا يُمحى، سكن وجداني كما تسكن القصيدة في صدر شاعرٍ لا يكتب ليسمع وإنما ليُشعر، كنت أقرأ له كلما ظننت أن الشعر ترف، فأجده شبيهًا بالحكمة حين تُصاغ، ومع كل بيت كنت أكتشف وجهًا آخر للوطن، وكبرتُ وكبرتْ المسافة بين الفشاشوية وأمكنةٍ لا تُشبهها، وتغيّرت الأشياء من حولي، لكن ذلك الصوت ظل ثابتًا ولم يكن خالد الفيصل شاعرًا عابرًا، كان حالة لرجل يحمل القصيدة في يده اليمنى، ويخطط للمدينة باليسرى، لا يرفع صوته في المجالس، لكنه يرفع الذائقة حيثما حضر.

ثم عرفت أنه المهندس الذي نهض بعسير، والرجل الذي منح مكة صوتًا ثقافيًا مختلفًا، والرسام الذي يرى في القصيدة ألوانًا، وفي الكلمات أبوابًا مفتوحة، ورغم هذا الامتداد لم ألتقِ به ولا صادفت عينيه في قاعة، غير أن الرغبة في محاورته تقف على باب الوقت منذ زمن، ليست رغبة في لقاء بروتوكولي، ولا بحثًا عن إجابة جاهزة، ما أتمناه هو أن أُصغي إليه كما يصغي الفتى لصوتٍ يألفه عبر تلفزيون قديم خافت دون أن يشعر بالحاجة لشرح كل شيء، أرغب في سؤاله عن المسافة بين البيت الأول الذي كتبه، والطريق الأول الذي عبّده، عن عسير في صباحاتها الأولى، وعن مكة حين أشرقت من نافذة مختلفة، عن الوطن حين يُكتب، وحين يُدار.

أحمل أسئلتي من دون استعجال، أعلم أن بعضها قد لا يُطرح، وأن بعضها لا يحتاج إلى إجابة، لكن مجرد الجلوس مع رجل حمل الشعر والإدارة وتجاوز بهما حدود النمط والرتابة هو في ذاته إجابة لكثير من الأسئلة، وإن لم يحدث اللقاء فالصوت لا يزال حيًا بالكاد التلفزيون القديم في الفشاشوية قد توقف، ولكن الكلمات التي خرجت منه ذات ظهيرة، ما زالت تمشي في الذاكرة كما يمشي خالد الفيصل في القصيدة.