

بقلم: د. خالد بن يحيى القحطاني
في مسار الإبداع، لا يواجه الفنان تحديًا أعظم من سؤال: لمن أُبدع؟
هل يكتب أو يُصمّم أو يلحن من أجل متلقٍّ حاضرٍ وفعلي؟ أم أنه يخاطب في فنه شخصية ذهنية، خيالية أحيانًا، هي ما يُعرف في النقد الأدبي بـ”المتلقي الضمني” (Implied Reader)؟
هذا المفهوم، الذي طوّره الناقد الألماني Wolfgang Iser، يشير إلى أن كل عمل إبداعي يُفترض ضمنيًا وجود قارئ مثالي أو متخيل يستوعب الرسالة كما أرادها المبدع، دون الحاجة لشرح أو تبرير. لكن المفارقة أن هذا المتلقي لا يشبه بالضرورة الجمهور الواسع، بل يتشكّل من رؤية المبدع نفسه، وقيمه الجمالية، ووعيه الفني.
من هنا، تبدأ المسافة بين الفن الذي يُنتَج من أجل “القبول الجماهيري”، والفن الذي يُنتَج استجابةً لصوت داخلي، لرغبة أصيلة في التعبير عن الذات، بصرف النظر عن ردود الفعل المتوقعة. الإبداع الحقيقي، كما يرى كثير من المفكرين، لا يُقاس برضا الجمهور، بل بصدقه، وعمقه، وقدرته على تجاوز لحظة التلقي إلى أفق المعنى.
الذات أولاً.. ثم الآخر
في هذا السياق، يرى الشاعر والناقد الإنجليزي T. S. Eliot أن العمل الفني لا يولد في عزلة عن التقاليد، لكنه لا يجب أن يُساق أيضًا وراء ذائقة الجمهور. في مقالته الشهيرة Tradition and the Individual Talent، أكد أن المبدع الأصيل هو من يضيف للتقاليد من خلال فرادته، لا من يكررها لينال التصفيق.
ويعبّر إليوت عن موقف جمالي واضح: الفنان لا ينبغي أن يسأل نفسه كيف سيتلقّى الآخرون عملي؟ بل: هل عبّرت بصدق عمّا أراه؟ وهو ما يتقاطع مع ما ذهب إليه الفيلسوف الأمريكي John Dewey في كتابه Art as Experience، حين رأى أن الفن هو امتداد للتجربة الحسية والشعورية للفرد، وأن “الخبرة الفنية” لا تكتمل إلا حين يكون المبدع صادقًا مع ذاته، قبل أن يفكّر في تلقي الآخرين.
ضد الإرضاء.. مع التوتر
الناقدة والمفكرة الأمريكية Susan Sontag، في مقالتها Against Interpretation، قدّمت نقدًا لاذعًا لما سمّته “نزعة التفسير القهري”، معتبرة أن الفن يجب أن يُعاش ويُحسّ، لا أن يُفسَّر فقط. كانت سونتاغ تدعو إلى تجربة الفن كما هو، دون الحاجة إلى تبريره أو جعله سهل الهضم. في رؤيتها، الفن ليس وظيفة بل تجربة حسيّة، والمتلقي الحقيقي هو من يقدر هذا التعقيد، لا من يبحث عن رسالة مبسّطة أو مغلّفة للعرض.
أدونيس والتجريب كضرورة
في المشهد العربي، قدّم أدونيس موقفًا صريحًا من قضية التلقي. في عدد من مقالاته وكتبه، شدّد على أن الإبداع الشعري لا يتحقق بمحاولة شرح الواقع أو تبسيطه للجمهور، بل في تجاوزه، وفي صياغة رؤية جديدة للعالم. الشعر، في نظره، ليس خطابًا مباشرًا، بل “رؤيا” متوترة، خارجة عن المألوف، لا تصلح لأن تكون مفهومة بالضرورة، بل لأن تُكتشَف تدريجيًا من قبل المتلقي القادر على المغامرة الجمالية.
المتلقي الشريك.. لكن بشروط
في نظرية “جمالية التلقي” (Reception Aesthetics) التي طوّرها Hans Robert Jauss، لم يُلغَ دور المتلقي، بل تم منحه مكانة مركزية في تشكيل المعنى. إلا أن هذا الدور مشروط: لا يكفي أن “يتلقى” الجمهور العمل، بل عليه أن يُعيد تشكيله بحسب أفق توقعه وثقافته وخياله. وهنا يظهر “المتلقي القادر”، لا فقط الراغب، كعنصر فاعل في اكتمال التجربة الجمالية.
لكن هذا لا يعني أن المبدع يجب أن ينحني أمام ذائقة الجمهور؛ بل أن يثق بأن المتلقي الحقيقي – الضمني – موجود، وإن بدا صامتًا في البداية. هو المستعدّ للإصغاء، لا الحكم، للتفاعل، لا الاستهلاك.
الخلاصة: الفن الذي لا يُبرَّر
من خلال استعراض هذه الرؤى المتنوعة، يتبيّن أن الإبداع الأصيل ليس محاولة لإرضاء الجميع، بل مخاطبة عميقة لضمير فني داخلي. والعمل الفني، حين يتشكل انطلاقًا من هذه الرغبة الصادقة، قد لا يحقق في البداية صدى جماهيريًا واسعًا، لكنه يحمل بذرة الخلود، لأنه لا يتوجّه إلى جمهور لحظي، بل إلى “متلقٍ ضِمني” قد لا يُعرَف بالاسم، لكنه حاضر في وعي المبدع كصوت نقي وصادق.
في زمن التفاعلات اللحظية و”الترندات”، يبدو من الضروري إعادة الاعتبار لفكرة أن الفن لا يُقاس بمدى انتشاره، بل بقدرته على البقاء، وعلى ملامسة ما هو أبعد من التلقي السريع: ملامسة الإنسان في جوهره.