بقلم - حسناء خالد الزهراني
ما إن تجتمع جماعة بشرية في مكان ما، حتى تنشأ الحاجة إلى نظام يحفظ استقرارهم، ويحمي حقوقهم، ويوفّر العدالة بينهم. وهذا النظام، مهما كانت صورته، لا بد أن يستند إلى مرجعية تمدّه بشرعيته وتكفل استمراريته. وتاريخيًا، لم يخرج هذا الأساس عن أحد مصدرين: إمّا القانون المكتوب، وإمّا العادة المتوارثة.
لكن، أيّهما أقوى في فرض النظام وتحقيق الامتثال: القانون الصادر عن السلطة، أم العادة الراسخة في الوجدان الجمعي؟
عندما يصطدم القانون بالعادة: التجربة الأمريكية
في عام 1920، أقرّت الولايات المتحدة التعديل الثامن عشر للدستور، والذي قضى بحظر تصنيع وبيع وتوزيع المشروبات الكحولية. وقد استند القرار إلى دوافع أخلاقية واجتماعية، من بينها ارتفاع معدلات الجريمة والعنف، وتدهور الصحة العامة، وانحدار القيم، وانخفاض كفاءة العمال. غير أن الحظر لم يحقق أياً من أهدافه.
فطوال ثلاثة عشر عامًا من تطبيقه، لم تتراجع الجريمة، بل شهدت البلاد ازدهار العصابات المنظمة، وانتشار شبكات التهريب، وظهور الحانات السرية، وأصبح المواطنون يصنعون الخمر في منازلهم. وبحلول عام 1933، أُعلن فشل التجربة رسميًا، وتم إلغاء التعديل ورفع الحظر.
كيف فشل القانون رغم سلطته؟ لأنه جاء صداميًا مع عادة متجذّرة في الثقافة الأمريكية. فالكحول لم تكن مجرد مشروب، بل جزءًا من الطقوس الاجتماعية، ووسيلة للمتعة وتخفيف التوتر. كما أن المجتمع الأمريكي، المؤسس على قيم الحرية الفردية، رفض التدخل القسري في أنماط حياته الخاصة. فكانت النتيجة أن اصطدم القانون بالعُرف، فتمرد الناس ووجدوا سُبلًا للتحايل عليه.
حين تسير العادة مع القانون: تجربة الجزيرة العربية
على الطرف الآخر من المحيط الأطلسي، وفي توقيت يسبق الحالة الأمريكية بـ1296 عامًا تقريبًا، شهدت المدينة المنورة تجربة مغايرة تمامًا.
ففي السنة الثالثة للهجرة، نحو عام 624 ميلادي، نزل النص القرآني بتحريم الخمر تحريمًا نهائيًا، شاملًا الصنع والبيع والشرب. واللافت أن هذا التحريم لم يُقابل برفض أو تحايل، بل باستجابة فورية، حتى أن الصحابة سكبوا أواني الخمر في الطرقات من فورهم.
كيف حدث هذا الامتثال السريع؟ ولماذا نجح القانون هنا بينما فشل هناك؟
الجواب في العادة. فقد اعتاد العرب على الحرية الجماعية بدلًا من الفردية، وذلك بفعل تكوينهم القبلي. وكان السكر مكروهًا لما يُسببه من فقدان للعقل، وما يُمكن أن يجرّه من عار على القبيلة، إذ تُقاس كرامة القبيلة بكرامة أفرادها. وكانوا في الوقت ذاته يرون أن للخمر منافع صحية، فكانوا يشربونها.
ومع ذلك، جاء التحريم متماشيًا مع السياق، وسار في تدرّج حكيم هدم قلعة العادة من داخل الوجدان، عبر ثلاث مراحل قرآنية:
أولًا: بيّنت آية من سورة البقرة أن ضرر الخمر أعظم من نفعه:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}
فبهذا الطرح، سقط أحد أعمدة العادة، وهو الاعتقاد بالمنافع.
ثانيًا: عزّز النص النفور من الثمالة في سورة النساء:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}
وهو ما طابق الحسّ العربي القبلي الرافض لفقدان العقل.
ثالثًا: نزل التحريم النهائي في سورة المائدة، لا بصيغة فرض قانوني، بل كخطاب وجداني مؤثر:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ… رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ… فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ؟}
خطاب استنهض الضمير الجمعي، وبيّن الأضرار الواقعية، وختم باستفهام يُراد به الأمر، لا القسر.
بهذا التدرج التشريعي الذي احترم البنية النفسية والاجتماعية، تحققت طاعة صادقة من الداخل، لا بطشًا من الخارج. فاستقام القانون لأن العادة كانت قد تم تفكيكها وإعادة بنائها روحيًا.
العادة تُعدّل كفّة الميزان
يتبيّن من الحالتين أن العادة تملك سلطانًا يتجاوز القانون إن لم يكن منسجمًا معها. فحين يُسنّ قانون يستلهم من الوجدان الشعبي، يجد طريقه إلى التطبيق بسهولة. أما إذا جاء القانون غريبًا عن السياق الثقافي، فإنه ينهار، مهما كانت نواياه نبيلة.
ولذلك قال المفكر غوستاف لوبون في كتابه الآراء والمعتقدات:
“يجب على القانون، لكي يكون مؤثرًا، أن يستوحي من العادة، لا أن يستبقها”.
فالعادة ليست مجرد سلوك موروث، بل منظومة نفسية واجتماعية راسخة. ومن لم يفهمها، لن يستطيع بناء نظام قانوني يحترمه الناس، ولا دولة يسير فيها القانون في وئام مع الناس، لا خصومة معهم.
هذا الصراع بين القانون والعادة يعكس واقعًا معقدًا، حيث في بعض الأحيان قد تكون العادة أقوى من القانون. لذا، يُطرح سؤال هام: كيف يمكن للمجتمعات المعاصرة إدارة هذا التناقض بطريقة تسهم في حفظ الاستقرار والعدالة؟
إن فهم الديناميكيات بين القانون والعادة هو أمر أساسي لبناء مجتمع أكثر توازنًا. وعلينا أن نفكر في كيفية إيجاد تناغم بين هذين العنصرين لضمان تحقيق العدالة والاستقرار الاجتماعي.