

بقلم: ثامر ابن سعران السبيعي
يُعد الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، أحد أبرز القادة الذين أعادوا تشكيل السياسة الخارجية السعودية بمرونة وبراغماتية، خاصة في إدارة العلاقات مع إيران، المنافس الإقليمي التاريخي. من خلال مزيج من اللهجة الحازمة، الردع الاستراتيجي، والدبلوماسية الذكية، نجح الأمير في تحويل التوترات إلى فرص، مع ضمان توافق هذه التحركات مع رؤية 2030. هذا التقرير يستعرض ذكاء الأمير الاستراتيجي منذ 2017 حتى 2024، مع التركيز على تصريحاته الحادة، المفاوضات بوساطة عمانية وعراقية، اختيار الصين كوسيط، وتأثير ذلك على النفوذ الجيوسياسي.
1. اللهجة الحادة في 2017: استراتيجية الردع
في الثاني من مايو 2017، أدلى الأمير محمد بن سلمان بتصريحات قوية خلال مقابلة مع قناة العربية، قال فيها: “كيف أتفاهم مع نظام يؤمن بأن قتلي يُدخله الجنة؟” وأضاف: “لن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سنعمل لتكون المعركة في إيران”. هذه التصريحات لم تكن مجرد تعبير عن موقف شخصي، بل جزءًا من استراتيجية ردع سياسي تهدف إلى:
تسليط الضوء على التحدي الأيديولوجي: أشار الأمير إلى الفجوة الأيديولوجية مع إيران، التي تُصعّب الحوار في ظل دعمها لجماعات مسلحة مثل الحوثيين وحزب الله. هذا الخطاب عزز الدعم الدولي للسعودية كقوة معتدلة مقابل نفوذ إيران.
حشد الدعم الإقليمي والدولي: التصريحات جاءت في سياق تصاعد التوترات بعد هجمات الحوثيين على السعودية، مما دفع الأمير إلى تعبئة المجتمع الدولي ضد السياسات الإيرانية التوسعية.
وضع إيران في موقف دفاعي: الهجوم اللفظي وضع ضغطًا على إيران لإعادة تقييم استراتيجيتها، خاصة في ظل العقوبات الأمريكية التي أعيد فرضها عام 2018.
دلالات الذكاء الاستراتيجي: استخدم الأمير لهجة حادة لتأكيد القوة السعودية، مع الحفاظ على التزام المملكة بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة وحسن الجوار. هذا التوازن بين الحزم والدبلوماسية مهد الطريق لمرحلة لاحقة من الحوار.
2. المفاوضات بوساطة عمانية وعراقية: المرونة الدبلوماسية
بعد مرحلة التصعيد، أظهر الأمير محمد بن سلمان مرونة دبلوماسية من خلال الانخراط في مفاوضات غير مباشرة مع إيران، مستفيدًا من وساطتين إقليميتين: العراقية والعمانية. هذه المرحلة بدأت بشكل جدي في 2021، وتجلت في الآتي:
الوساطة العراقية: استضافت بغداد خمس جولات من المحادثات بين السعودية وإيران بين 2021 و2022. في أبريل 2021، عقد لقاء سري جمع وفدًا سعوديًا بقيادة مساعد الزايد العيبان، مستشار الأمن القومي، مع وفد إيراني رفيع المستوى. هذه المحادثات ركزت على تقليل التوترات، خاصة في اليمن، ومهدت لتحسين العلاقات.
الوساطة العمانية: لعبت سلطنة عمان، بفضل حيادها التقليدي، دورًا داعمًا في تسهيل الحوار. مسقط استضافت محادثات موازية، ساعدت في بناء الثقة بين الطرفين.
دور مساعد العيبان: اختيار الأمير لمساعد العيبان، وهو شخصية دبلوماسية مخضرمة وذات ثقل أمني، يعكس جدية السعودية في المفاوضات. العيبان قاد الوفد السعودي بمهارة، مع التركيز على المصالح الوطنية، مثل وقف هجمات الحوثيين وتأمين الحدود الجنوبية.
دلالات الذكاء الاستراتيجي:
الاستفادة من الوساطات الإقليمية: اختيار العراق وعمان كوسيطين يعكس فهم الأمير لتعقيدات المنطقة. العراق، بفضل علاقاته مع كلا الطرفين، قدم منصة محايدة، بينما عززت عمان الثقة بسبب سمعتها كوسيط نزيه.
تحويل الضغط إلى فرصة: بعد هجوم أرامكو 2019، أدرك الأمير حدود الدعم الأمريكي، مما دفعه إلى فتح قنوات حوار مع إيران لتقليل المخاطر الأمنية دون الاعتماد الكلي على واشنطن.
التوازن بين الحزم والمرونة: رغم تصريحاته الحادة في 2017، أظهر الأمير استعدادًا للحوار عندما أصبح ذلك في مصلحة السعودية، مما يعكس براغماتية سياسية.
3. اختيار الصين كوسيط: ضمان استراتيجي وإشراك جيوسياسي
بلغت الجهود الدبلوماسية ذروتها في مارس 2023، عندما أُعلن عن اتفاق تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران في بكين برعاية صينية. اختيار الصين كوسيط كان قرارًا استراتيجيًا يعكس ذكاء الأمير محمد بن سلمان في عدة أبعاد:
ضمان قوة عظمى: الصين، بثقلها الاقتصادي وعلاقاتها القوية مع كل من السعودية (الشريك التجاري الأول) وإيران (مستورد رئيسي للنفط الإيراني)، كانت الوسيط المثالي لضمان التزام الطرفين بالاتفاق. نفوذ الصين الاقتصادي منح الاتفاق مصداقية واستدامة.
إشراك الصين جيوسياسيًا: الأمير استغل التنافس الأمريكي-الصيني لإعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة. بإشراك الصين، قلل السعودية من هيمنة الولايات المتحدة على الملف الإيراني، مما عزز استقلالية سياستها الخارجية.
تقليل المخاطر الإقليمية: الاتفاق، الذي تضمن إعادة فتح السفارات وتفعيل الاتفاقيات الثنائية، خفف من التوترات في اليمن والعراق، مما يتماشى مع هدف رؤية 2030 بتوفير بيئة مستقرة للتنمية.
تعزيز مكانة السعودية دوليًا: الاتفاق عزز صورة السعودية كقوة دبلوماسية ناضجة، قادرة على التفاوض مع منافسيها وإشراك قوى عالمية في حل النزاعات.
دلالات الذكاء الاستراتيجي:
توقيت مثالي: جاء الاتفاق في وقت كانت فيه إيران تحت ضغط العقوبات، والسعودية تسعى لتقليل الاعتماد على واشنطن. الأمير استغل هذا التوقيت لتحقيق تقارب يخدم المصالح السعودية.
توسيع الشراكات: إشراك الصين عزز العلاقات الاستراتيجية مع بكين، التي وقّعت اتفاقيات بقيمة 30 مليار دولار مع السعودية في 2022، مع دمج مبادرة الحزام والطريق مع رؤية 2030.
إضعاف النفوذ الأمريكي: الاتفاق شكل “صفعة ثلاثية الأبعاد” لواشنطن، التي فشلت في تقديم حلول مماثلة للتوترات السعودية-الإيرانية.
4. مسار الذكاء الاستراتيجي (2017-2024)
منذ 2017، تطورت استراتيجية الأمير محمد بن سلمان في التعامل مع إيران عبر مراحل متكاملة، تعكس رؤية طويلة الأمد:
2017-2019: مرحلة الردع والضغط: تصريحات 2017 ودعم العقوبات الأمريكية على إيران عززا موقف السعودية كقوة إقليمية. بعد هجوم أرامكو 2019، أدرك الأمير حدود الدعم الأمريكي، مما دفعه إلى إعادة تقييم الاستراتيجية.
2020-2022: الانفتاح على الحوار: الانخراط في مفاوضات عبر العراق وعمان أظهر براغماتية الأمير. تصريحاته في أبريل 2021 عن رغبته في “علاقات طيبة ومميزة” مع إيران عكست تحولًا من الصدام إلى التعاون.
2023: التطبيع برعاية صينية: اتفاق بكين كان ذروة الاستراتيجية، حيث نجح الأمير في تحقيق استقرار إقليمي مع ضمان نفوذ سعودي وإشراك قوة عالمية جديدة.
2024: تعزيز الدور الوسيط: بحلول 2024، بدأت السعودية تلعب دور الوسيط غير المباشر بين إيران والولايات المتحدة في الملف النووي، مستفيدة من قنواتها المفتوحة مع طهران، مما عزز مكانتها كفاعل دبلوماسي.
5. شواهد الذكاء الاستراتيجي
التوازن بين القوة والدبلوماسية: الأمير استخدم الردع (تصريحات 2017، دعم العقوبات) لإضعاف إيران، ثم الحوار (مفاوضات 2021-2023) لتحقيق الاستقرار، مما يعكس فهمًا عميقًا لتوقيت التحركات السياسية.
استغلال التنافس الدولي: إشراك الصين كوسيط قلل من هيمنة الولايات المتحدة، وعزز مكانة السعودية كشريك استراتيجي للقوى الصاعدة.
حماية رؤية 2030: التطبيع خفف من التهديدات الأمنية، مثل هجمات الحوثيين، مما سمح بإعادة توجيه الموارد نحو مشاريع تنموية مثل نيوم.
تعزيز الصورة الدولية: الاتفاق عزز صورة الأمير كزعيم شاب يقود السعودية نحو الاستقرار والتنمية، كما أشاد به محللون إيرانيون لقدرته على حماية النمو الاقتصادي السعودي وسط التوترات الإقليمية.
الخلاصة
ذكاء الأمير محمد بن سلمان في إدارة العلاقات مع إيران بين 2017 و2024 تجلى في قدرته على الانتقال من الردع الحازم إلى الدبلوماسية البراغماتية. تصريحاته الحادة في 2017 وضعت إيران في موقف دفاعي، بينما مهدت المفاوضات بوساطة عمانية وعراقية، بقيادة شخصيات مثل مساعد العيبان، لتخفيف التوترات. اختيار الصين كوسيط في 2023 كان قرارًا استراتيجيًا ضمن التزام الطرفين، وعزز نفوذ السعودية جيوسياسيًا مع إشراك قوة عالمية صاعدة. هذه الاستراتيجية، التي جمعت بين القوة والمرونة، خدمت رؤية 2030، وعززت مكانة الأمير كقائد إقليمي يقود السعودية نحو الاستقرار والتنمية في منطقة مضطربة.