الكاتب : النهار
التاريخ: ٠٨:٣٧ م-١٠ يونيو-٢٠٢٥       24035

بقلم: د. نجلاء بن مصري
في زمن تتسارع فيه الأصوات وتتفاقم فيه الخلافات، بات من النادر أن نجد خصومة تُدار بأخلاق. رغم ذلك، يظل كل خلاف يحمل في طياته فرصة أن يكون نزيهًا وشريفًا، خلافًا لا يسقطنا في وحل الإهانات أو التشويه، بل يختبر قدرتنا على التزام العدل واحترام الكرامة الإنسانية.
 أتذكر موقفاً حدث لجارين كانا يسكنان -جنبًا إلى جنب- منذ سنوات -ذات يوم - حدث بينهما خلافاً حاداً بسبب تسرب ماء من بيت أحدهما إلى الآخر، مما ألحق ضرر بالجدار، الجار المتضرر غضب وواجه جاره، لكن الآخر أنكر في البداية مسؤوليته. 
كادت الأمور تتصاعد، لكن الجار المتضرر قال: "أنا لا أريد أن أُفسد عشرة عمر بسبب خلاف، ولا أن أظلمك، سأُحضر خبيرًا لنعرف الحقيقة، فإن ثبتا أنه من عندك، فالأمر واضح، وإن كان من عندي، فأنا أعتذر." وبالفعل، جاء الخبير وتبيّن أن التسرب من بيت الجار الآخر، فوقف وقال: "أخطأت حين أنكرت، وأنا أتحمّل المسؤولية كاملة وأعتذر عن رفع صوتي."فرد عليه جاره: "بارك الله فيك، ما بيننا أعظم من جدار، وجزاك الله خيرًا على اعتذارك."
هذا الموقف يعكس ما يُعرف بـ "شرف الخصومة"، فهل يمكن أن يكون خلافنا بشرف؟ نعم، حين نتحكم في غضبنا، ونمنح الحقيقة فرصة أن تظهر، ونتقبلها بصدق ونُبل، عندما لا نختلق الوقائع لتشويه صورة الخصم، ولا نحمله ما لم يقله أو يفعله، فالخلاف الشريف لا يشيطن الخصم، ولا يضخّم الخطأ، ولا يستغل الضعف، بل يحفظ كرامة الجميع، ويعترف بالحق دون مكابرة.
إن شرف الخصومة سلوك نبيل، سواء في النقاشات العامة، أو الخلافات الشخصية، أو حتى في ساحات القضاء، حيث يلتزم الإنسان بالأمانة والعدل واحترام الطرف الآخر، مهما بلغت شدة الخلاف وهذا ما أكده قوله تعالى: "ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا.
اعدلوا هو أقرب للتقوى" (سورة المائدة، (٨) أي لا يدفعكم بغضكم لقوم أن تظلموهم فشرف الخصومة هو أن تكون خَصمًا شريفًا، لا يخرجك الخلاف عن مبادئك، ولا يجعلك تستخدم أساليب دنيئة، بل تبقى نزيهًا حتى وأنت في أشد النزاع. حتى مع وجود عداوة أو خصومة مع طرف حاقد أو حاسد أو اختلاف في المذاهب أو الأديان فالعدل مبدأ لا يسقط أمام العواطف، وهو من أركان شرف الخصومة.
ومن الاختلاف الفقهي تعلّمنا التسامح، وهو جزء جوهري من شرف الخصومة العلمية، فلا أحد يحتكر الصواب المطلق في المسائل الخلافية، كما لا يجوز اتهام من خالفك في الرأي بسوء النية أو الضلال، ولا ندخل في نيات الناس، فاللّه -عز وجل- هو العليم بها، فإذا لم نحترم شرف الخصومة انتشرت الفتنة والكراهية، وأدت إلى تدمير العلاقات الأسرية أو المهنية، ونفور الناس من الحوار والنقاش، وتصعيد النزاع الذي يجعل من الحلول السلمية أكثر صعوبة. ومن الناحية العملية يمكن للوالدين وللمربين بتطبيق شرف الخصومة، فنكون قدوة في نقاشنا القادم، سنختلف دون أن نجرح. هذا هو الرقي الحقيقي، فشرف الخصومة لا يعني أن أتنازل عن رأيي، بل أن أدافع عنه بقوة دون أن أسقُط أخلاقيًا، فالأصل في الخصومة من الناحية القانونية هي وسيلة لحماية الحقوق وليست وسيلة للانتقام والتشهير.
شرف الخصومة هو التطبيق الأخلاقي للدين الإسلامي التي نظم الخلاف، وتقبل التنوع، وحفظ كرامة الإنسان وعدالة الموقف، وعزز ثقافة الحوار والتواصل، وتحمل الأطراف مسؤولية أفعالهم وسلوكياتهم خلال الخصومة، ومن لا يتحلّى بشرف الخصومة، فهو غالبًا لم يُحسن فهم مقاصد الدين الإسلامي ولم يتمثل روحه في واقعه.

@tgd217