

بقلم: د. نجوى الكحلوت
حين يُذكر “لقاء الله”، يتبادر إلى أذهان الكثيرين أنه الحدث العظيم الذي يقع بعد الموت، حين تنقشع حُجب الغيب، وتُعرض الأرواح على خالقها.
ولا شك أن ذلك اللقاء هو أجلّ ما يطمح إليه المؤمن، وأشرف اللحظات التي تنالها النفس بعد طول السير في دروب الدنيا.
لكن الحقيقة التي تنبّه لها أهل البصيرة، وتحدّث عنها المفكرون كالدكتور مصطفى محمود، أعمق من ذلك بكثير. فقد ذكر في كتابه الروح والجسد كلام عن مفهوم لقاء الله جل في علاه، برؤية عميقة تمسّ لبّ الحقيقة.
فلقاء الله لا يُختزل في لحظة ما بعد الموت، بل هو حالٌ يعيشه المؤمن في الدنيا، في كل لحظة إخلاص، في كل دمعة خشية، في كل سجدة خاشعة، وفي كل نية خفية لا يعلمها إلا هو.
قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ الحديد4، فما دام القرب الإلهي لا يُحدّ بزمان ولا مكان، فإن اللقاء يكون في كل لحظة صفاء، في كل عمل طيب، في كل انكسار لله، في كل مرة تغضّ فيها بصرك حبًا له، أو تبتسم في وجه أحد طلبًا لمرضاته.
لقاء الله ليس حدثًا… بل حالة، حين تُصلي فتنسى مَن حولك، حين تُسامح وقدرتك على الانتقام حاضرة، حين تعطي ولا تنتظر جزاءً إلا منه سبحانه.
لقاء الله لا يتطلب موتًا، بل حياة… حياة واعية بحضوره، ممتلئة بشوق لقربه، وملتزمة بعهده.
فالعلمُ لقاء ..
والذكرُ لقاء ..
والتفكُر لقاء ..
والصلاةُ لقاء ..
والصدقةُ لقاء ..
والمُناجاةُ لقاء ..
وقيامُ الليل لقاء ..
وبِر الوالدين لقاء ..
وقراءة القرآن لقاء ..
وصلة الأرحام لقاء ..
وزيارةُ المريض لقاء ..
والإحسان بكل صوره لقاء ..
وتفريج كُرُبات المُسلمين لقاء ..
فهل أدركنا كم فُرصة لقاءٍ نحياها؟!
قال الله ﷻ:
﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا﴾ الكهف110
وأما اللقاء الأخير… فهو تتويج لا بداية
يوم نلقى الله بعد الموت، إنما نُتوَّج بما زرعناه من لقاءات في الدنيا.