

بقلم: أحمد الدليان
حين يُذكر اسم "الجزيرة العربية"، يتبادر إلى الذهن فورًا مهبط الوحي ومهد الرسالة الخاتمة، غير أن هذه الأرض التي تحتضن اليوم المملكة العربية السعودية لم تكن فقط مهد الإسلام، بل كانت قبله، وعلى مدى آلاف السنين، ميدانًا حيًّا لحضاراتٍ سبقت التاريخ المدون، وعبّرت عن ذاتها بنقشٍ على الصخر، وزخرفةٍ على الجدران، وصوتٍ في المدى ظل يتردد إلى اليوم.
إنها الأرض التي لم تكن صحراء عابرة، بل معبرًا للبشر الأوائل، ومنشأً للأبجديات، وملتقىً للقوافل، وموطنًا لملوكٍ وملكاتٍ لم تُخلدهم القصائد فقط، بل النقوش والآثار والألواح.
منذ ملايين السنين… الإنسان الأول هنا
في شمال المملكة العربية السعودية، وتحديدًا في صحراء النفود الكبير، كشفت الاكتشافات الأثرية عن وجود بشري قديم يعود إلى أكثر من 400,000 عام، تمثّل في أدوات حجرية تعود إلى العصر الأشولي، وهي من أقدم الشواهد على نشاط الإنسان المنتصب في هذه المنطقة.
أما في موقعي الهُطية وبحيرة الكُشَيبية، فقد تم العثور على آثار أقدام بشرية تعود إلى ما يقارب 120,000 سنة، تُنسب إلى الإنسان العاقل، وتُعد من أقدم الأدلة الموثقة على وجوده خارج القارة الإفريقية.
تكشف هذه الشواهد أن شبه الجزيرة العربية لم تكن أرضًا معزولة أو هامشية، بل كانت ممرًا محوريًا في مسارات الهجرات البشرية الكبرى، ومسرحًا للتفاعل المبكر بين الإنسان والطبيعة، ومهدًا مبكرًا لممارسات الصيد، والاستيطان، والتعبير الرمزي الذي يُمهّد لبواكير التفكير الديني والثقافي.
الجزيرة الخضراء: عندما كانت الصحراء نهرًا
قبل أن تتحول الرمال إلى صحراء قاحلة، شهدت الجزيرة العربية مراحل مناخية خصبة، تُعرف بمرحلة “الحقبة الممطرة”، حيث امتلأت الأرض بالأنهار والبحيرات، ونمت فيها النباتات، وهاجرت إليها الحيوانات.
وقد وثّقت الأقمار الصناعية والمسوحات الأثرية آلاف الأودية الجافة التي كانت تجري فيها المياه، مما جعل هذه الأرض مؤهلة لاحتضان حياة بشرية مستقرة ومزدهرة.
وفي هذه البيئة المزهرة، بدأ الإنسان في ترك بصمته الأولى… نقشًا على الصخور، ورسومًا على جدران الكهوف، وسكنى للمغاور والمراعي التي أصبحت لاحقًا مستوطنات حضارية.
نقوش تُنطق الصخر
في جُبّة والشويمس وكهوف نجران ورُكال والبرك، تقف الرسوم والنقوش الصخرية شاهدًا على حضارة ما قبل الكتابة. مشاهد الصيد، صور المعبودات، أشكال الإنسان والحيوان، والرموز البدائية كلها تدل على مجتمع يمتلك وعيًا جماليًا وروحيًا وثقافيًا.
لم تكن هذه الرسوم ترفًا بصريًا، بل كانت لغة.
لغة تصف المشهد، وتوثق الحياة، وتحمل رسائل خفية عن عقائد الإنسان، نظرته للعالم، وحتى مشاعره، وقد أدرجت منظمة اليونسكو مواقع جبة والشويمس ضمن قائمة التراث العالمي بوصفها "أكبر متحف مفتوح للنقوش الصخرية في العالم".
واحات الحضارة: من تيماء إلى نجران
في عمق الجزيرة، حيث تنبثق الحياة من نبع ماء، ازدهرت الواحات كمراكز حضارية نشطة. كانت تيماء، منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، مركزًا تجاريًا وثقافيًا لافتًا، يصل بين حضارات الشام ومصر وبابل واليمن، وما قصة نبونيد، آخر ملوك بابل، الذي أقام فيها لعشر سنوات، إلا دليل على مكانتها العالمية في ذلك العصر.
أما نجران، جنوب المملكة، فقد عُرفت بتاريخها الديني العريق، حيث كانت مركزًا للديانات القديمة مثل اليهودية والمسيحية قبل الإسلام، وتزخر بنقوش بخط المسند الجنوبي، والآثار التي تدل على معابد وأسوار وأسواق.
العلا… حين تتكلم الحجارة
في شمال غرب المملكة، تحتضن العلا إرثًا حضاريًا استثنائيًا، حيث قامت فيها مملكة دادان ثم مملكة لحيان، وهما من أقدم الكيانات السياسية في الجزيرة العربية.
وتُعد مدائن صالح، عاصمة الأنباط في الجنوب، بمقابرها المنحوتة وأعمدتها العالية، من أروع الشواهد على الحضارة النبطية، التي امتزج فيها الفن المعماري بالرؤية الدينية والاقتصادية.
وقد أصبحت العلا اليوم نموذجًا في الربط بين التاريخ والمستقبل، عبر مشروع "العلا، واحة الحضارات"، الذي يعيد إحياء التراث بطريقة معاصرة، ويضع المملكة على خارطة السياحة الثقافية العالمية.
من النقش إلى الأبجدية: ولادة الخط العربي
ليست الحضارات نقوشًا فقط، بل هي حروف. وهنا، في شمال المملكة، تَشَكّلت ملامح الكتابة العربية الأولى من رحم الخط النبطي، الذي هو امتداد للفينيقي والآرامي، تطور هذا الخط في العلا ومدائن صالح، ثم انتقل إلى مكة والمدينة، وتحول لاحقًا إلى الخط العربي الذي كتب به القرآن.
إن الحرف العربي الذي نراه اليوم في المساجد والقصائد والخطاطات، له جذر عميق في هذه الأرض، فقد ولد من رحم الصخر، وتغذّى على حضاراتٍ تفاعلت مع محيطها، وامتلكت أدوات التعبير الرمزي واللغوي منذ وقت مبكر.
الدرعية والهوية السعودية
في قلب نجد، وتحديدًا في وادي حنيفة، نشأت الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، التي كانت امتدادًا لحضارة الروح والهوية. لم تكن مجرد مدينة، بل رمزًا للوحدة والانتماء والتجذر.
واليوم، تُعاد ولادة الدرعية في مشروع "بوابة الدرعية" كواحدة من أكبر المشاريع الثقافية في العالم، تستعرض فصولًا من تاريخ الجزيرة الممتد، وترفع الراية السعودية على عمق حضاريٍ لا ينضب.
رؤية تُعيد اكتشاف الأرض
رؤية السعودية 2030 لم تكتفِ بالتنمية الاقتصادية، بل جعلت من الثقافة والتراث ركيزة أساسية. فقد أطلقت مبادرات ضخمة مثل "هيئة التراث"، و"المعهد الملكي للفنون التقليدية"، و"مشروع خريطة الآثار"، إضافة إلى فتح المواقع الأثرية أمام الزوّار، ودعم الأبحاث الأكاديمية، وتوثيق القصص الشفوية.
لقد أصبحت المملكة تقرأ تاريخها بعيون حديثة، لا لتتغنى بالماضي فحسب، بل لتصنع منه حاضرًا مزدهرًا ومستقبلًا مشرقًا.
أرض الحضارات… إلى العالم
ليست المملكة العربية السعودية حديثة عهدٍ بالحضارة، بل هي من أقدم مواطنها. إنها الأرض التي عبَرها الأنبياء، وسكنها الملوك، ونقش عليها الإنسان حكاياته الأولى.
من آثار الشويحطية إلى خط المصحف، من العلا إلى الدرعية، ومن تيماء إلى نيوم… ينهض تاريخ المملكة ليحكي قصة لا تبدأ من الصفر، بل من ملايين السنين.
هذه ليست مجرد جغرافيا، بل جغرافيا الذاكرة، والتاريخ، والبشر، والبعث الحضاري