الكاتب : النهار
التاريخ: ٠١:٣٠ ص-١٩ اكتوبر-٢٠٢٤       50050

بقلم - الدكتور أحمد حساني*

‏تهديدات وجودية منذ السابع من أكتوبر العام الماضي، وكائنات معدنية قاتلة تجتاح المنطقة بأكملها، تنقل رائحة الموت والأشلاء والدماء إلي كل الجهات ومعها رائحة القلق والذعر!

‏ثمة احتلالان لمنطقتنا العربية على حد سواء في الأهداف والمشروع والمصالح المشتركة: احتلال صهيوني، واحتلال إيراني، فالاحتلال الأول تأسس أيديولوجيا على مبادئ الحركة الصهيونية العالمية، والتي تسعى من خلالها إلى إقامة دولة يهودية مرموقة وقوية ووحشية على أرض فلسطين بعد سلبها من السكان الأصليين!

‏وتقوم عقيدتها القتالية علي ضرورة الدفاع عنها مهما كان الثمن، دون النظر إلي عدد الضحايا أو الطريقة التي تتم بها إبادتهم، وتتضمن تلك العقيدة مزيجا من الدفاع والضربة الأولي والاغتيال للحفاظ على التفوق العسكري والرد السريع على التهديدات الأمنية، فضلا عن المشروع الصهيوني ومن وراءه القوي الغربية الذي يصل إلى مرحلة خطيرة على المنطقة كلها، مع ضعف الوعي بخطورة هذا المشروع مصيبة كبيرة علي عموم الأمة، لأن بنية هذا الفكر تدور في فلك الإبادة الجماعية لامتلاك الأرض!

‏وإلى هذا اليوم لا يتخلى الكيان الصهيوني عن هذا الرداء، لأن التخلي عنه بمثابة تهديد وجودي لهذه الدولة اللقيطة، ولذلك لم تنفك عرى ثنائية السياسة والدين داخل دولة الاحتلال.

‏وأما الاحتلال الثاني وهو الإيراني الصفوي ولا يشك عاقل أن الثاني ما كان له أن يتمدد ويتوسع ويتنقل قادته العسكريون والسياسيون وسط جغرافية عربية من بغداد إلى دمشق فبيروت وصنعاء دون موافقة أو غض طرف من واشنطن وتل أبيب.

‏المشروع الإيراني خطر عظيم في حاضره، وإن بدا خطراً واضحاً علي العرب والمسلمين، فإنه في واقع الأمر يلعب في المساحة التي تفيد الكيان الصهيوني أعظم فائدة.

‏فالإيرانيون بما يشكلون من خراب في البلاد، وتهجير للحواضن السكانية التي تشكل خطرا علي الكيان الإسرائيلي، إنما يخدمون غايات الصهيونية -دون أن يدركوا- وهم يدركون أن تهجير المسلمين السنة من سوريا والعراق ولبنان أعظم ما يتمناه الصهاينة؛ بل هو أكبر أحلامهم منذ وطئت أقدامهم أرض فلسطين ولم يبق إلا سكان الأردن حتى تكتمل الخدمة العظيمة!

‏إيران رأس حربة في المشروع الأمريكي، فرضية أن العداء بين المشروعين مسرحية وتمثيلية، وهذه فرضية لا نية لي للدخول في نقاش لإثبات سذاجتها وبعدها عن الواقع، التوصيف الصحيح هو أن إيران تمددت واستطالت بتوظيف وتساهل أمريكي صهيوني لتحقيق مصالح ضرب القوى السنية في المنطقة.

‏فلا يشك عاقل في أن هذه الأعمال التي تمزق الشعوب وتشتت الأوطان هي في جوهرها مصلحة عظيمة للكيان الصهيوني، إذ يتخلص بها من قوى كانت تقف في وجهه وتحاربه أو مقدّرُ لها أن تكون. 

‏وهكذا، فإن المشروع الإيراني، وإن ظهر كمنافس للصهيونية، فهو في الحقيقة يُمهد الطريق لها، ويحقق ما عجزت هي عن تحقيقه بيدها.

‏فيكفي التسويق لإيران ودعم مسرحياتها ومشاركتها في الاستخفاف بعقول العوام وتوفير الغطاء لاستمرار حربها علي الإسلام والمسلمين، ويكفي التفرقة بين الدم الفلسطيني، والدم السوري، والدم العراقي، والدم اليمني!

‏فأهم ما نحتاجه في مثل هذه الأوقات الحرجة، هو الطرح المحفز لنقاش موضوعي جاد بعيداً عن العواطف والذكريات والتحليلات الرغبوية، المليئة بالحزبية والانتماءات التي لا جدوى منها!

‏مع الأسف ندفع ضريبة غياب مشروع عربي حقيقي ونعاني من فراغ قاتل بهذا الصدد يملؤه عدوين لدودين، حشرتنا كل الظروف لأن لا نستطيع أن نفاضل بينهما حتى على قاعدة أخف الشرين فكلاهما شر محض ومطلق. 

‏ربما ستطول متابعتنا لما يجري وستختلط علينا أوراق أكثر، ما قد يجعلنا أشد حاجة للعودة للبديهيات والتمسك بها ريثما تمر هذه الموجة الهادرة والصاعدة بقوة والتي قد تجرف في طريقها الكثير الكثير ؟!

‏فالخلاف لا يفسد للود قضية لكن عندما يريد الطرف المخالف أن يطمس الحقائق، و يغير المنطق هنا يكمن الخلل والزلل وفوق هذا وذاك ينكر بالمطلق وجود خطر صفوي لا يقل عن الخطر الصهيوني، ويحاول تسويقة للعامة بالحمل الوديع والوجه البرئ ونحن نشاهد إجرامه ومشاريعه التي تستهدف الدين والعقيدة والشعارات الطائفية المغلفة بالكذب والخداع، وجعل من جراحنا في فلسطين جسر عبور فهذا لا نقبله ولا نستسيغة ومن يحمل هذا المشروع أو يسوق له خائن لدينه ووطنه ولأمته العربية، ولا تقل خيانته عن إبن العلقمي وأبي رغال!

‏كرة اللهب ما زالت تتدحرج بسرعة البرق دون أفق واضح، ولأنها حرب وجودية صفرية، فإنها بالتأكيد ستغير كل ما نعرفه اليوم في منطقتنا العربية، فأزمات الأمة ونوازلها المستعصية والدائمة تعود دون أي قاعدة تأسيسية رشيدة لمواجهة الكوارث، ويرجع ذلك إلي غياب الأساس الفكري العقلاني لاستشراف الواقع والمستقبل من خلال هدي الله في سننه الكونية ومركز الأخلاق الديني في روح الفرد والحكمة في تشريعه، ولذلك أؤكد دائما على تنمية الروح الفكرية في طليعة الشباب المسلم، ليكون طليعة متمايزة للوعي الاجتماعي المستقبلي والخروج من النكبات، ولتأسيس أساس فكري وأخلاقي، وأن يكون لها حصانة من أن تحرقها المواسم السياسية، ولكن تعبر منها إلي تراكم وعي وقيم وتضامن نوعي وكيفي مع قضايا الأمة.

*باحث في الشؤون الإقليمية والدولية