

بقلم - إبراهيم حافظ*
أجلسته جوار النافذة؛ لأنها رحلته الأولى بالطيران، ظل يستمتع طوال الرحلة بالإطلالة البعيدة:
- واو! السحب تحتنا كأنها بساط أبيض، والسيارات في الطرقات كأنها سرب من النمل يمشي خلف بعض.
لكني ظللت قلقا طوال الرحلة من غموض الترتيبات لديّ: هل يستقبلنا في المطار أحد؟ إن لم فكيف أتصرف؟ كيف أذهب إلى موقع المعسكر؟ لا أعرف اسمه ولا الطريق إليه، ولا من يدلني عليه، وليس عندي رقم للتواصل؛ وإذًا؟
تهبط الطائرة ويرتفع القلق، ها نحن وصلنا بحمد الله سالمين فماذا بعد؟ نقف لاستلام الشنطة، يطول الانتظار ويتمدّد القلق، نلمح الشنطة من بعيد ويرن الجوال برقم غريب:
- مرحبا.
- معي أبوهتان؟
- نعم.
- هل وصلتم؟
الحمد لله قد فُرجت، ردّدتها في نفسي:
- ننتظر استلام الشنطة.
- تجدني في انتظارك إن خرجت.
خرجنا واستقبلونا بابتسامات ودود؛ كأنها الورود، ثم أهدونا ورودا حقيقية: وردة لي، ووردة لهتان؛ بلون البنفسج الذي تعشقه أمه؛ أتذكرها وأسعد بخلوّ رحلتي منها. ربّ لا تجعلها تقرأ هذه الأسطر إن نُشِرت، فإن فعلت فيا ويلتى ليتني لم أفُهْ بزَلّة قلم!
تمضي دقائق لا تكفي لتشمّم الورد؛ وإذا الباص المؤمَّن يسرع بنا إلى مقرّ السكن وأي سكن؟ فندق راديسون المرصّع بنجوم أربع. نهمّ بالنزول فنُمنَع:
- الشنط أولا من فضلكم؛ كيلا تجرّوها من ورائكم؛ لأنها مسؤوليتنا منذ الآن.
ندخل الفندق الحالم، فيستقبلنا نسيم بارد صَفْو:
- فضلا توجّهوا لإدارة المسابقة.
توجّهنا واستلمنا بطاقات صغيرة وابتسامات عريضة وهدية إضافية: شنطة رحلات أنيقة تحوي بداخلها دفترا لطيفا وقلما رشيقا. كيف عرفوا أنني وابني كُتّاب قصص؟
واستلمنا رخصة غدائنا: بطاقتيْ دخول لصالة الطعام. دخلناها فإذا الصالة ملأى؛ لا بالطاعمين فقط بل بما لذّ وطاب من أنواع السلطات والمشهّيات والطبخات والأطباق و"الحلى":
- ماذا تختار يا هتان؟
حيران لا يدري ما يختار، أختار له من كل صنف ولون ربع ملعقة لئلا نكثر؛ فيمتلئ صحنان عريضان بشتى الأصناف والأشكال والألوان والأحجام والروائح والنكهات والمذاقات.
- هل شبعت هتان؟
- نعم، وأريد أن أنام.
- لماذا؟
- تعبت من السهر والسفر والمشي الطويل والأكل اللذيذ!
- قم نرَ إذًا أين سنرتاح.
توجّهنا لإدارة الفندق وسألنا:
- أين مسكننا؟
- قريبا من هنا داخل محيط فندقنا؛ كي تسعدونا بأن نراكم هنا؛ مع كل وجبة تلتذّونها طيلة إقامتكم بيننا.
وندخل مسكننا، نصيب فيه راحتنا، ونؤدي به صلواتنا، ونعود مساء نصيب عشاءنا؛ فإذا هدية ثالثة بانتظارنا:
- فضلا توجّه بهتان لغرفة أخذ القياس يفصّلوا له ثوبا يلبسه في الحفل الختامي.
- أما لهداياكم من نهاية؟
- وش دعوى؟ إنما هو حق لكم وواجب.
يسألني ولدي ونحن عائدون شِباعًا إلى المسكن:
- لماذا يهتمّون بنا إلى هذا الحدّ؟
- ماذا تعني؟
- رحلة مجانية ذهابا وإيابا، إقامة مجانية في فندق فخم، معسكر تدريبي، وحفل ختامي، وجوائز وهدايا؛ لعشرات الطلاب وذويهم، و..
- كل ذلك وأكثر لأن المواهب الوطنية تستحق الرعاية والاهتمام.
يسير خطوات يتفكّر، ثم يعود فيسأل:
- وماذا يستفيدون من الإغداق علينا بهذا النبل والكرم؟
- يستثمرون به أغلى طاقات الوطن؛ ليبقى عزّه شامخًا كالنخلة، وليبقى مجده ماضيًا كالسيف! أتعرف أغلى طاقات الوطن يا هتان؟
- نعم أبي، إنه الإنسان الموهوب.
- مثلك أنت.
ألقي النظرة الأخيرة على الواتس قبل أن أنام، يسألني أخي:
- رأيتك صباح اليوم قلقًا وأنا أوصلك إلى المطار. كيف أنت الآن؟
- لا مكان لقلق في وطن يستثمر في الإنسان.
*كاتب و قاصّ
معسكر تدريب الطلاب
راديسون - الرياض

