الكاتب : النهار
التاريخ: ١٠:٤٥ م-١٣ مارس-٢٠٢٤       42515

د. محمد إبراهيم العبدالله

تحملك رواية " أبناء الطين" للكاتب الروائي أحمد عبد الكافي الحمادة إلى عوالم غرائبية جديدة تتشابك فيها الأحداث، وتتداخل على نحوٍ لافتٍ، فالروايةُ تظهر على صعيد الشكل قدرة الكاتب على توظيف الحدث وتأطيره في السياق الذي تمضي به مستخدماً تقنيات السرد الحديثة من الخطف خلفاً، وتيار الوعي، والغوص في أعماق النفس الإنسانية ليظهر الأحلام والهواجس والمخاوف التي تلازم الشخصيات الرئيسة في الرواية، فيختلط الواقع بالخيال، والحلم باليقظة، وتترك القارئ ليعيش الحدث كأنما وقع لتوه. جمالية البناء المعماري للرواية سنعرضها من خلال بعض الثيمات المهمة فيها.

السرد المؤطر في الرواية يهدف إلى الكشف عن الفقر والوجع وانعدام الأمن في قرية الشلال تلك القرية الواقعة وسط السوري جنوب حلب على أطراف البادية. الزمن الذي وقعت فيه الأحداث مضى عليه وقت طويل، وما يتم تناقله حول هذه الأحداث مشافهةً بين الأجيال يكاد يختفي اليوم، لهذا تتعدد الأصوات في الرواية، فكل سارد يستجمع ذاكرته البعيدة ليحكي ما علق بها من أحداث. يقول السارد في بداية الرواية: 

"مات الأب وترك القرية والعمة تحكي القصة للرواي، والراوي يحكيها لخالد، وخالد السارد الرئيس في الرواية يسردها بلغة المواجع والآلام. القرية التي تركها أهلها واستوطنها أناس من أعراق شتى وتزوجوا وأصبح جيلاً رخواً كحلزون في مستنقع" 

الرواية تحكي قصة القرية الواقعة على أطراف جبل " شبيث" يعيش أهلها على الزراعة ورعي الماشية، تتعرض فجأة لغزو من البدو الذين ضاق بهم الحال نتيجة الجفاف الذي اكتسح البلاد، "الرواية التي أراد شيخ العشيرة الغازية أن يصدقوها قومه ويروجون لها، لكن الحقيقة التي دفعت به للغزو والفتك بتلك القرية؛ أن وشاية نمت إليه أن أحد أبناء هذه القرية قد تجرأ وعشق ابنته" وخطفها.

خلت القرية من الرجال ولم يبق سوى النساء، وخالد ذلك الطفل المعاق الذي يعاني من شلل في أطرافه. تأوي أم خالد وطفلها ومجموعة من النساء إلى كهف في جبل مجاور، تأخذ معها بعض الأغنام والماعز والعجول، وما تبقى من مؤونة. تتعرض هذه المجموعة الناجية لهجوم الذئاب والحيوانات المفترسة الأخرى التي تسكن الجبل، وتستطيع أم خالد بخبرتها أن تنقذ المواشي من هذا الخطر بزجهم جميعاً داخل الكهف. هناك يبلغ الصبي الحلم، وتفكر أمه في زواجه من أربعة نساء في وقت واحد حفاظاً على نسل العائلة ورغبة في الانتقام، وتنجب سهيلة إحدى زوجاته ثلاثة تواءم وتموت بعد مخاض عسير. تعثر العائلة على كنز كان قد خبأه الجنود العثمانيون في سفح الجبل بعد أن أتعبهم المسير أثناء خروجهم من سورية على أمل العودة إليه في وقت لاحق. وتستطيع هذه العائلة الناشئة أن تشتري بيوتاً وعقارات في مدينة حلب ويصبح خالد من أكبر الأثرياء في المدينة.  

الرواية تتناول أساسيات التفاعل الإنساني، وبعيداً عن كونها تبسيطية، جاءت كلمة « الطين»  في العنوان لتحمل دلالات ومعاني متعددة، وهي عتبة نصيّة تقودنا إلى البوابة التي يمكن من خلالها فهم الرواية. فالرواية تطرح ثلاث مقاربات: الأولى، الوجودية أو الصراع من أجل البقاء، ويتجلى ذلك بأشكال مختلفة، منها الغزو الذي تعرضت له القرية، وقتل الرجال فيها. وكذلك الصراع بين الذئاب التي هاجمت الكهف والمجموعة التي جمعت الحطب وأشعلت النار في مدخل الكهف لتحمي ذاتها وتحمي المواشي داخله.

 الثانية؛ الرمزية التي جاءت بها: الطين يرمز إلى علاقة الإنسان بالأرض، والعودة إلى الأصل، والتمسك بالجذور، فالقرية التي هجرها أهلها طويلاً يعودون إليها اليوم وتزدهر ببساتينها ومياهها من جديد. الثالثة، السرد بأصواته المتعددة الذي يعكس الرغبة الحقيقية في إعادة كتابة التاريخ قبل أن يمحى من الذاكرة من خلال شخصيات ذات مصداقية كالأم والعمّة وخالد وغيرهم. 

المال في الرواية يكشف عن نفسه، وقدرته على حفظ الجنس البشري (سلالة القبيلة) فالمواشي التي جيء بها إلى الكهف كانت عاملاً مهماً لاستمرار الحياة داخل الكهف، وربما كان عاملاً مساعداً في قبول النساء الأربع الزواج من خالد نصف الرجل. اكتشاف الكنز في سفح الجبل ساعد كذلك على تحوّل العائلة من الحالة الرعوية البدائية إلى الحالة الحضرية، حين اشترى خالد بيتاً واسعاً في مدينة حلب، وامتلك العقارات والأراضي الواسعة في المنطقة الغربية من المدينة. لكن يبقى السؤال: هل هذه الرواية تبشر بكدمات الحداثة، وبالتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي ظهرت لاحقاً في المجتمع، وكانت المادية أحد مرتكزاتها؟ هل انتقال العائلة من حياة البداوة إلى الحياة الحضرية هو تبشير بموجة المادية التي حوّلت القيم والمثل التي تمسك بها المجتمع لقرون طويلة إلى قيم مادية؟ هذه ما تؤيده شخصية بسام، ذلك الشاب الذي سافر إلى بريطانيا طلباً للعلم فاطلع على الحياة المادية في الغرب وعاد إلى بلده يحمل شهادة في الطب. فموجة المادية دفعت أيضاً سكان القرية إلى التعدي على المقبرة وحرثها للاستفادة منها: 

يقول السارد "فيما الأرض التي خصصناها لدفن الموتى بدأت تتآكل من كل الأطراف، ويكاد يدخل المحراث بين القبور لاستثمار كل شبر فيها."

 فكرة الأم، والعمّة وغيرهما من كبار السن اللواتي تميزن بالطيبة والخير ليست فكرة مستحدثة، فثمة شخصيات كثيرة حملت في داخلها الخير والطيبة والعطاء في القص الأوروبي نذكر على سبيل المثال شخصية مارثا كويست في رواية " المدينة ذات البوابات الأربعة،" للكاتبة العالمية دوريس ليسنغ، وشخصية أليس في رواية" الإرهابي الطيب" للكاتبة نفسها، لكن استطاع الكاتب هنا أن يجمع في شخصية الأم الطيبة وحسن الخلق والاستبداد وحب التسلط، وهذه الصفات قلما تجدها في البطل النمطي. فقد ظهرت الأم على سبيل المثال مستبدة في رأيها، متسلطة لا تقيم وزناً لأحد لكن لم تستطع التخلي عن الطيبة التي بداخلها. يقول السارد:

"إحدى المرات حصل تمرُّد في بداية لجوئنا لهذه القمة، تمرَّد أغلب النساء على أوامر والدتي، لكن تمت السيطرة عليه، بل تمَّ تحقيق المزيد من المكاسب الجديدة التي كانت مغيبة أو ربما كانت مؤجلة. أذكرُ ذلك تمامًا، وكيف تعاملت معهنَّ بمنتهى الحدّة والحسم، لم تكن كلماتها مهادنة ولا مجاملة؛ بل كانت قاطعةً وذات معنى واحد فقط هو الانسحاب بكل ما تملك، والانفراد بكل ما تم إحضاره من القرية." 

البيئة المحلية حاضرة في الرواية، والاستعارات التي وردت فيها مستحدثة ومستمدة من البيئة  التي وقع فيها الحدث، فقد شبّه الكاتب بعض الأشخاص بشجرة " الطرفة " وهي شجرة ذات ساق رفيع تنبت عادة على ضفاف نهر الفرات. وشبه كذلك عيون بعض البشر الفارغة بعيون الغراب: بعض البشر يا ولدي عيونهم فارغة مثل عيون الغُراب." مثل هذه الاستعارات تعطي مصداقية للسارد، وتظهر الخيط المتجانس الذي نسجت به الرواية. فنرى على سبيل المثال أن حجي صطوف المعمار الماهر في بناء القبب هو الذي عزل قبب المعيشة عن قبب الدواب في القرية. الكاتب كان على الدوام متعاطفاً مع القارئ، فلم يتركه في حيرة، ولم يخذله في موقف، فالمصائب التي تقع ثقيلة على الشخصيات سرعان ما تنحسر وتتلاشي مع ظهور حدث آخر يعارضه أو يقابله. سهيلة تلد ثلاثة توائم، لكنها تموت بعد الولادة مباشرة، وكذلك غزو القرية ونهبها وقتل رجالها يقابله العثور على كنز بعد غزوها بفترة وجيزة. فالرواية تكرّس مبدأ مهماً في الحياة مستمداً من قوله تعالى: إنّ بعد العسر يسراً.

أخيراً يخرجنا الكاتب من آلام الماضي وقسوته، ليصف لنا الجلسة التي جمعت بسام وخالد في الفيلا بحلب، حيث تقدّم لهما مدبرة المنزل المشروبات الساخنة في صينية فاخرة بكوبين من البورسلان اللامع المزركش برسومات وأشكال الورود التي تدل على ثراء فاحش. لكن على الرغم من كل هذا الثراء يبقى الماضي ينخز في ذاكرة خالد، فيستذكر بلحظة تفكّر نادرة كيف كان حاله في القرية التي تركها: هتف بسري خاطر، عمره أكثر من ثمانين عامًا، حينما كنا نخوض في دروب الطين، وأزحف بالوحل للرُكب طوال فصلي الشتاء والربيع، ونجثو على الأرض لنشرب من ساقية المياه الجارية، كثيرًا ما كان يحدث مثل ذلك، طردتُ هذا الخاطر من ذهني، كأن لا شأن لي به، خوفًا من تسرُّبه في صوتي."