

إيمان حماد الحماد
بقلم: د. إيمان حماد الحماد "بنت النور"
ما أجمل أن يتحوّل القلب إلى نهر…
نهر هجر ضجيج المدن، وتخلّى عن صخب الدنيا، فصار يسيل في بطحاء التأمل، ويرتمي على ضفاف الذكر، يحمل في جريانه تراتيل حب، وهمسات يقين، ويغسل ما تراكم عليه من غبار الغفلة، بماءٍ طهورٍ من دموع الحنين.
هناك، تحت شجرةٍ من خجلٍ وصلاة، يجلسُ القلب لا كمتفرّجٍ على الجمال… بل كأحد مصادره.
يهمس النسيم في أذنه:
"هنيئًا لمن لم يحبس الروح في ضجيج العالم،
وترك لها نافذةً على الغيب، تُطلّ منها كل فجر."
يبدو القمر خاشعًا، وقد وضع تاجه على صفحة الماء، فأضاءت أسرار كانت مطوية في صُحف الليل، نجمةٌ تنادي، وأخرى تُنصت، وكل ذرةٍ في الوجود تُقيم سُجودها الصامت، وكأن هذا الليل قد أصبح محرابًا كبيرًا، وأنتَ فيه الإمام… إن صمتَّ بقلبٍ خاشع.
يا لهذا الصفاء حين يُصبح الجمال طريقًا إلى الله ..
لا تعبيرًا عنه فحسب.
يا لهذا السكون الذي لا يخلو من ضجيج التجلّي، ولا من صدى الخطى العائدة نحو الذات النقية.
وهناك في عمق الشعور…
تدمع العين فجأة، لا لسببٍ واضح،
بل لأن الروح قد لامست لحظةً ليست من الدنيا، لحظةً من نور، أو لعلها مرّت بجوار وجه الله.
ففي لحظةٍ كهذه ..
حين يمتزج الجمال بخشوع الروح ..
ويصبح كل ما في الكون تسبيحًا صامتًا
ندرك أن الإيمان ليس فقط شعائر تُؤدى
بل قدرة على أن ترى الله في كل ما هو جميل
في ارتعاشةِ ورقةٍ على ضفة
في نورٍ يتسرّب من بين أغصان
في دمعةٍ تهبط برفقٍ لا تعرف له سببًا
إلا أن القلب قد زار مقامًا من مقامات القرب
فعاد مُضيئًا... خاشعًا... طاهرًا كالنهر
وعلم أن الجمال ليس زينة الدنيا
بل نافذة على الآخرة
وأن الخشوع ليس انحناء الجسد
بل انتباه الروح حين يمرّ بها الله
" عندما يُصبح القلب نهرًا "
ما أبهى أن يتحوّل القلب نهرًا
ينسلّ من بين ضلوع الغياب
ويجري
لا صوب بحرٍ
بل نحو ضوءٍ في داخله
ضوءٍ يُشبه أوّل دعاءٍ في السحر
حين تسهو الأرواح عن العالم
وتوقظها رعشة يقين
كلّ شيءٍ في هذا الليل يُصلّي
النسيم راهبٌ لا يتكلّم
والأشجار سجّادة خشوعٍ تهمس بالأسماء الحسنى
والماء مسبحة لا تنفكّ تسبّح
القمر خاشعٌ على سطح النهر
يخلع ضوءه
كأنّه يُطهّر وجهه
من غبار النسيان
والنجوم ترقص من بعيد
لا فرحًا
بل من رقّة النشيد
سلامٌ على الأرواح التي عرفت
أن الجمال طريق إلى الله
لا زينة للعابرين
تحت شجرة ترتّل
يجلس القلب
عارياً من كلّ حجاب
إلا من نور يتدفّق فيه
كأنه ماء التوبة
لا زمن هنا
لا ماضٍ يؤرّق
ولا غدٌ يقلق
كل اللحظات صلاة
وكل الصمت تواشيح تسبيح
دمعة تنزل دون إذن
كأن الروح ارتجفت
حين مرّت بها نسمة
حاملة شيئًا من حضرة الله
وصوتٌ لا يُسمع كان يعبر من هناك
كأن الغيب نفسه كان يتنفّس
وكأن القلب للجمال بات يتحسس

