إيمان حماد الحماد

٠٣:١٩ م-١٨ يوليو-٢٠٢٥

الكاتب : إيمان حماد الحماد
التاريخ: ٠٣:١٩ م-١٨ يوليو-٢٠٢٥       9790

بقلم: د. إيمان حماد الحماد

خريفُ العمر... ذاك الفصلُ المتأخر من الرحلة، حين تهدأ العاصفة ويهبُّ النسيم لا ليوقظ الزهر، بل ليُغنِّي للأوراقِ الراحلةِ أناشيدَ الوداع ، في مكانه ولكنه يشعر بالضياع ، في وقته ولكنه عن زمانه رفع راية الانقطاع ..

فلا اليوم يومه ، ولا القوم قومه ، ولا الحال رَومه ، ولا المال سَوْمُه ، كصائم طال صومه ، وحالم ضاع حلمه ، وليس بيدنا عتاب ، ولا على وقفة الأعتاب لومه ...

هو الخريف الذي يصبح فيه الشخص ضيفا بعد أن كان المضيف… ويصبح فيه العمر صرفا ، بعد إعلان مخيف ..

وجاوز فيه العمر ضعفا ، فبه المرء رغم قُوّتِه ضعيف ، ومع كل خبر يردد- خوفا - يا لطيف .. 

فهو العمرُ حين تتكئُ الذاكرةُ على عصا الحنين، وترتدي الأيامُ معطفَ التأمل ويرتفع صوت الأنين ، وتصبحُ اللحظات كحبات الرمانِ رصين ، في كفّ شيخٍ يُقلّبها خشيةَ أن تفلتَ منه فرحةٌ لم تكتمل وكأن وقتها لم يحين .

خريفُ العمر ليس موتًا، بل هو حياةٌ من نوعٍ آخر، حياةٌ يُخاطب فيها القلبُ نفسه بصوتٍ هادئ، كأنّه حكيمٌ جلس على عتبةِ المساءِ منهيا وليس ببادئ ، يُراجع دفاترَ العمر بندًا بندًا ، فتلمع الضحكات فقد باتت صيدا ، ويدافع عن الذكريات التي زاحمتها الحياة ، فيسمع بخياله صوتها ، ولكن ليس لها في واقعه ردا ، فهي الماضي الذي وضع له الحاضر حدا ، فالصغير صار جَدّا ، وعليه صار الصيف بردا ، كالعود الذي لم يعد يحتمل إحصاء وجردا ، والحد الذي لا يقبل إمضاء وبَردا ..

في خريف العمر، تُصبح الذكرياتُ مرايا معلّقةً على جدران القلب، كلّما مرّ بها نسيمُ الماضي، ارتجفتْ فيها صورةٌ قديمة، وضحكةٌ غائرة، ولمسةُ يدٍ عبرتْ ثم لم تَعُد.

هو العمرُ الذي تتلوّنُ فيه الأرواح كما الأشجار، تتجرّد من أوراقها الزائدة، من الأحلامِ التي أرهقتها المسافات، من الوجوه التي مرّت كالغيم، ومن الوعودِ التي شاختْ ولم تنبت.

تتعلّم فيه النفسُ أن تُحبّ الصمت، لا لأنه الفراغ، بل لأنه امتلاءٌ من نوعٍ لا يُرى. يصبحُ الليلُ رفيقًا نبيلاً، لا يزعجك بضوء، بل يهمسُ لك أن تنامَ في حضن اللهفة الماضية، مطمئنًّا أنّك عشْتَ بما يكفي لتفهم.

خريفُ العمر هو حين تشعر أن الوقتَ لم يسرقكَ، بل شكّلك، نحتكَ كما ينحتُ النهرُ الصخور، ببطءٍ ولكن بثبات. كلُّ تجعيدةٍ في الوجه ليست علامةَ وهن، بل خريطةٌ مرّت بها الشمس، ورسمت طريق الأمس ، تنبض لمجرد اللمس ، وحكت حكايات السنين التي عصفت لها ، والليالي التي مرت بها ، واللحظات التي ترجمتها ، والذكريات التي ملأتها ، فباركها الحنين.

هو الفصلُ الذي يزهرُ فيه القلب من الداخل، حين تسقط أوراق الخارج، فتظهر جذورُ الصبر، وعروقُ الحبّ الخالص، وتتكشّف ملامحُ الروح كما هي، عاريةً من الزيف، نقيةً من الغرور.

وعندما يحدث ..

نشعر بأن الخريف عاد ربيعا ...

وصار الوقت يمر سريعا ...

ولم يعد العمر للضعف ذريعة ..

فقد حصدنا لحظاته ، وجنينا ريعَه ..

وأصبح طيف الأحبة في الخيال وديعة ..

فقد أمطر علينا الزمان بظروفه ، وعشنا  خريف العمر  وتجرعنا صروفه ، وصيفه وصفاءه حتى أصبح وصيفه ، وأعدنا ربيعه ، ونظمنا وفي وصفه إحساسنا وأعدنا له معروفه و حروفه ....

خريفُ العمر… ليس نهاية، بل بداية وعيٍ عميق، حين تدرك أن الزمانَ لا يُقاسُ بالسنين، بل بالرضا، وأنّ كلَّ ورقةٍ سقطتْ، كانت تُفسحُ الطريقَ للنور كي يدخل .

 ومضات الشعر في  خريف العمر  ...

فإذا مضى عُمري كأوراق الخريفْ

ومشت خطايَ على دروبٍ لا تُخيف

فأنا ابتسمتُ لأنّ قلبي ما جفا

ظلّتْ يداهُ على العطاءِ، كما الرفيفْ

تمدني بالنبض ، في وقعٍ ضعيف

ما خِفتُ ريحَ الوقتِ إن مرّتْ سُدى

فالحُبُّ ظلّي، والأمل فيه المُضيفْ

وعلى تجاعيدي تمرُّ قصائدي

نُقِشَتْ بحِبرِ الصبرِ، لا نقش خفيف

ولأن قلبي ما انحنى رغم المدى 

ما ضل فكري ، ما جفا قلبي الحنيف

سيظل حرفي شاهدا في مهجتي 

يمضي كنجم في الدجى ، وله حفيف ..

بنت النور

@bentalnoor2005