

النهار
بقلم - د. شروق العتيبي
تعد مؤسسات المعلومات والمعرفة رافداً أساسياً لبناء الدول المتقدمة، فهي ليست فقط أدوات أو وسائل لإتاحة المعلومات والمعرفة؛ بل هي عامل تمكين رئيسي للنمو الاقتصادي إذا لاقت الدعم المنشود، وقد شكل اهتمام حكام المملكة العربية السعودية بمؤسسات المعلومات والمعرفة محوراً رئيسياً ضمن مسيرتها التنموية الحافلة، ومن خلال السرد الزمني الآتي سنتعرف على اهم المراحل المفصلية في تاريخ دعم وتطور مؤسسات المعلومات والمعرفة:
المرحلة الأولى: مرحلة المبادرات الفردية
يُعتبر الملك عبد العزيز آل سعود-طيب الله ثراه- أول من وضع حجر الزاوية للاهتمام بمؤسسات المعلومات والمعرفة ويظهر ذلك من خلال الآتي:
- كان شغفه بالاطلاع والقراءة دافعاً شخصياً لتكوين مكتبته الخاصة والتكفل بطباعة كتبها على نفقته الخاصة للاستفادة منها في أمور الحكم.
- كما أولى -رحمه الله- اهتمامًا بتسمية وتطوير مكتبات الحرمين الشريفين ودعمها مادياً وعينياُ.
- كما شجّع الملك عبد العزيز النخب العلمية والأهالي على إقامة مكتبات عامة خصوصًا في مدن الرياض والقصيم، لذا فقد قام عدد من وجهاء المجتمع بتلك الفترة بإنشاء المكتبات الشخصية وطرحها للعامة من اجل الاستفادة؛ وبذلك قد تم وضع..
وكان هذا الاهتمام من المؤسس يمثل المرحلة الأولى من العلاقة بين القيادة والمعرفة، وذلك بغرض وضع بذرة الحراك المعرفي في المملكة والذي كان قائماً على الجمع بين دعم المؤسس ودعم الأهالي قبل أن يتطور ذلك الدعم لاحقاً إلى مسؤولية مؤسسية ومنهجية.
المرحلة الثانية: مرحلة التنظيم المؤسسي الرسمي
شهدت مؤسسات المعلومات والمعرفة بعهد الملك سعود بن عبد العزيز-رحمه الله- انتقاله نوعية وحاسمة من الاهتمام الفردي إلى التأسيس المؤسسي الرسمي وذلك كما يأتي:
- احتضان عدد من المكتبات التي كانت ناتجة عن مبادرات الأهالي بالمرحلة السابقة ومن ثم تقديم الدعم الملكي لها واعطائها الصبغة التنظيمية الرسمية ومثال على ذلك مكتبة الملك سعود ببريدة.
- ظهر أول مكتبة أكاديمية رسمية حديثة وهي مكتبة جامعة الملك سعود.
- إنشاء "دور للكتب" في عدة مدن رئيسية مثل "دار الكتب السعودية"، ولم تكن هذه الدار مجرد مكان لتخزين الكتب، بل صُممت لتكون صرحاً ثقافياً متكاملاً يضم قاعات للقراءة العامة، وقاعات متخصصة للكتب المرجعية، وللصحف والمجلات، وقاعة مخصصة للأطفال، بالإضافة إلى قاعة للمحاضرات.
- انشاء الإدارة العامة للمكتبات والذي يعتبر قمة الإنجاز المؤسسي لمؤسسات المعلومات بذلك الوقت؛ حيث اعتبرت المكتبات بذلك قطاعا معرفياً مهماً بحاجة لإدارة متخصصة ومنهجية من أجل تنظيمها.
المرحلة الثالثة: مرحلة التأصيل المحلي والدولسي
اكتسبت المشاريع المعلوماتية والمعرفية بعهد الملك فيصل رحمه الله أبعاداً جوهرية جديدة وذلك كما يلي:
- التوسع النوعي للمشاريع المعلوماتية؛ حيث ظهرت حيث ظهرت أولى المشاريع الأرشيفية وذلك من خلال إنشاء دارة الملك عبد العزيز والتي تعد من أهم المؤسسات والمراكز المعلوماتية المعنية بتوثيق وأرشفة تراث الدولة وإرثها المعرفي.
- ظهور أولى مراكز المعلومات الصحفية والإعلامية وذلك من خلال انشاء وكالة الأنباء السعودية ووكالة الأنباء الإسلامية الدولية.
- تنامي أعداد المكتبات المدرسية نتيجة النهضة الحركية التعليمية بتلك الفترة.
- ظهور أولى لبنات المكتبات المتخصصة مثل مكتبة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
- ظهور أولى النوادي الأدبية والتي كانت تضم بداخلها مكتبات هامة بدافع نشر الثقافة والمعرفة.
- ظهور جمعيات الثقافة والفنون والتي تحتوي على مكتبات ومراكز توثيق خاصة بتوثيق التراث والفنون الشعبية.
وإضافة إلى كل ما سبق، قد اتخذت عدد من المشاريع والمعلوماتية -بتلك المرحلة- بعداً دوليا ً؛ حيث حرص الملك فيصل على ربط العديد من المشاريع المعلوماتية والمعرفية بمنظمة اليونسكو الدولية.
المرحلة الرابعة: مرحلة النمو المؤسسي والتشريعي
شهدت فترة حكم الملك خالد والملك فهد-رحمهما الله- توسع نوعي وكمي كبيرين بمؤسسات المعلومات والمعرفة وذلك وفقاً لما يأتي:
- ظهور عدد من المؤسسات المعلوماتية الهامة كمكتبة الملك فهد الوطنية المعنية بحفظ الإنتاج الفكري المحلي السعودي، ومكتبة الملك عبد العزيز العامة.
- توسع الخدمات المعلوماتية وظهور أولى بدايات الخدمات المعلوماتية المؤتمتة والحاسوبية؛ حيث ظهر بعهد الملك خالد المركز الوطني للعلوم والتقنية (الذي تحول لاحقاً في عهد الملك فهد الى مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية) ومركز الكمبيوتر (الذي أصبح فيما بعد مركز المعلومات الوطني) من أجل دعم التطور التقني والمعلوماتي بمؤسسات الدولة.
- الاهتمام الكبير لخطط التنمية بتنمية قطاع المكتبات، حيث تشير خطة التنمية الثامنة إلى زيادة عدد المكتبات بأنواعها المختلفة، ليصل إلى نحو 1,980 مكتبة، منها 194 مكتبة متخصصة، و80 مكتبة عامة، و1,646 مكتبة مدرسية، و60 مكتبة جامعية.
- انتشار مراكز للتوثيق والأرشفة داخل الجهات الحكومية والذي بدوره أدى الى انشاء المركز الوطني للوثائق والمحفوظات بتلك الفترة، والذي أكد انشائه على الأهمية الاستراتيجية للوثائق كذاكرة وطنية وذلك من خلال نظام الوثائق والمحفوظات الصادر في نفس العام والذي يرسخ اهتماماً واضحاً بتنظيم هذا القطاع.
- صدور قانون الإيداع القانوني والذي منح المكتبات الوطنية السلطة القانونية لأجل التوثيق الشامل للإنتاج المعرفي الوطني.
المرحلة الخامسة: مرحلة بزوغ عصر الرقمنة
شهد عصر الملك عبد الله- رحمه الله- تطورات حديثة وعصرية على مستوى مؤسسات المعلومات والمعرفة، ومن أبرزها ما يلي:
- استمرار التوسع المؤسسي؛ فظهرت عدة مؤسسات معلوماتية مهمة كمكتبة الملك عبد الله العامة بجدة، ومكتبة الملك عبد الله التابعة لجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، ومجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية المعنية بتبادل المعرفة محلياً ودولياً خاصة فيما يخص التراث الحضاري العربي والإسلامي.
- استمرار التوسع التشريعي حيث وُضعت أطر قانونية معلوماتية صارمة، كصدور نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية بهدف تحقيق الأمن المعلوماتي، ونظام عقوبات نشر الوثائق والمعلومات السرية لمنع إفشاء سرية الوثائق، وتؤكد تلك الأنظمة التشريعية على أن الدولة بدأت في التعامل مع المعلومات على أنها أداة استراتيجية ذات أبعاد أمنية.
- ظهور أولى التجارب الجادة في عمليات الرقمنة للمشاريع المعلوماتية: حيث ظهرت المكتبة الرقمية السعودية التي أتاحت كمية ضخمة من المعارف الرقمية العربية والعالمية، وظهرت المكتبة الرقمية العربية وهي أحد مشاريع مكتبة الملك عبد العزيز العامة لرصد المعرفة العربية، وظهر الفهرس العربي الموحد وهو منصة رقمية من اجل التعاون العربي في تنظيم الأوعية المعلوماتية، كما تمت رقمنة عدد ممن الخدمات المعلوماتية داخل المؤسسات المعلوماتية كالمركز الوطني للوثائق والمحفوظات ودارة الملك عبد العزيز والمكتبات الأكاديمية.
- ظهور عدة مراكز معلوماتية المركز كالمركز الوطني للمعلومات الصحية وهي مراكز خاصة بتبادل المعلومات الصحية مع الجهات ذات العلاقة.
المرحلة السادسة: مرحلة التحول الاستراتيجي ورؤية 2030
مع قدوم حكم الملك سلمان وولادة رؤية المملكة 2030 لولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- ظهرت تحولات وتغييرات استراتيجية جميع قطاعات الدولة، وفي مقدمتها قطاعات المعلومات والمعرفة وذلك كما يلي:
- تحولت المكتبات من كونها مؤسسات خازنة لأوعية المعلومات الى "منصات رقمية ثقافية شاملة" وذلك من خلال تنفيذ خطط وسياسات هيئة المكتبات التي قدمت عدة مشاريع للمكتبات الرقمية مثل المكتبة الرقمية العامة" و"المكتبة الرقمية للأطفال"، "منصة الكتب الرقمية".
- ظهور بيوت الثقافة بدعم من هيئة المكتبات من أجل تطوير فكرة المكتبات العامة الى مراكز معرفية وتقديم تجربة ثقافية متكاملة للمستفيدين (كتقديم العروض المسرحية والموسيقية والورش العلمية)
- ظهور مراكز المعرفة الرقمية ضمن عدة جهات رسمية واتاحتها على مواقع تلك الجهات من أجل الاستفادة العامة مثل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، وزارة التجارة.
- ظهور عدة مشاريع لرقمنة الوثائق والأرشيفات كمشاريع المركز السعودي للمحتوى الرقمي (رقمن)، ومشاريع رقمنة محتوى مكتبة الملك عبد العزيز العامة.
- حوكمة عملية مشاركة البيانات والمعلومات الوطنية بدعم من سدايا، وذلك من خلال انشاء بنك البيانات الوطني الذي يسهل عملية مشاركة البيانات والمعلومات الخاصة بالجهات الرسمية؛ سواء مشاركتها مع جمهور العامة وذلك من خلال منصة البيانات المفتوحة، أو مشاركتها داخل الجهات الرسمية نفسها وذلك من خلال عدة منصات مثل مستودع بحيرة البيانات، ومنصة البيانات المرجعية، منصة سوق البيانات، ومنصة وفهرس البيانات الوطني. ويصاحب حوكمة مشاركة تلك البيانات عملية وضع اطر والتشريعات التي تحكم عملية مشاركة تلك البيانات من خلال إدارة البيانات الوطنية.
- تطوير البنية التحتية التقنية لدعم أمن البيانات والمعلومات الوطنية، كتطوير سحابة الحكومة السعودية "منصة ديم" بدعم سدايا المتمثل في مركز المعلومات الوطني والتي تعد أكبر سحابة من نوعها في الشرق الأوسط وذلك من اجل تعزيز خصوصية وأمان البيانات والمعلومات الوطنية.
- تقديم حلول وتقنيات ذكية لدعم الأنشطة المعلوماتية والمعرفية بالجهات الرسمية وذلك بدعم من المركز الوطني للذكاء الاصطناعي التابع لسدايا.
ومن خلال السابق نرى أنه في المرحلة السادسة -أي الحالية- قد اتخذ الاهتمام بقطاعات ومؤسسات المعلومات والمعرفة شكل المنظومة المتكاملة والمكونة من عدة أبعاد استراتيجية؛ كبُعد تعزيز استثمار راس المال البشري(كما في بيوت الثقافة)، وبُعد تعزيز استثمار المعلومات والبيانات الوطنية (كبنك البيانات الوطني)، وبٌعد تعزيز البنية التحتية (كمنصة ديم)، وبُعد تعزيز تشريعات حوكمة ومشاركة المعلومات والبيانات الوطنية، وبعد تعزيز التحول الرقمي (كالمكتبات الرقمية وبنوك المعرفة).
كما أننا لا نغفل أهمية المراحل السابقة، بل نؤكد على على الأدوار التي لعبتها تلك المراحل في ترسيخ ظهور وتطور ونمو مؤسسات المعلومات والمعرفة لاحقاً، كما تؤكد تلك المراحل على اهتمام جميع حكام المملكة بمؤسسات المعلومات والمعرفة والذي تبين لنا أن هذا الاهتمام ليس وليداً للعصر الرقمي الحديث، بل هو نتاج توجه استراتيجي متجذر في جميع مراحل بناء الدولة ونابع من إيمان جميع حكامها بجوهر تلك المؤسسات.

