النهار

٠٧:٠٩ م-٢٢ سبتمبر-٢٠٢٥

الكاتب : النهار
التاريخ: ٠٧:٠٩ م-٢٢ سبتمبر-٢٠٢٥       2255

بقلم - سيماء المزوغي

حين يُقدِم صالح زمانان على نصّه، لا ندخل مسرحاً فحسب، بل نغادر ضجيج الزمن اليومي إلى طقسٍ يوقظ ذاكرةً نائمة؛ نصٌّ يجعل الخشبة قبراً ومرآةً في آنٍ. فزّاعات ليست إعادة لحكاية قابيل وهابيل كما تُروى على سطور التاريخ؛ هي استدعاءٌ طقسِيّ للذنب كحالة مؤسِّسة، وقراءةٌ للعنف بوصفه فعلَ استمرارٍ يتجاوز فعلته الأولى؛ يحضر فينا كزمنٍ، لا كحدثٍ. لذلك، المشهد لا يقال لنا عبر سردٍ يمرّ مرور الكلمة فحسب، بل عبر مساحةٍ صوتيةٍ وبصريةٍ تشدّنا إلى داخل الجرح، وتجعلنا نرى كيف يتكاثر الدم في اللغة والعادات والدهاليز الصغيرة للحياة اليومية.

 

قابيل هنا ليس قاتلاً بمعزلٍ عننا، هو الظلّ الذي يحشوه كل إنسان وجماعة: ذاك الضدّ الذي لا نعترف به، فيعود متلبّساً فعلنا وعلاقاتنا. نومه المتقطع ليس خطأً درامياً فحسب، بل بيانٌ عن فشل الذات في استيعاب ذنبها؛ الهروب إلى الحلم يتحوّل عنده إلى اشتغالٍ داخلي لا يعرف السكون، إلى تكرارٍ يعيد تشكيل العنف ذاته. المقابل، الفزّاعة ليست خشباً وقشّاً؛ هي الضمير المجسّد، دفاعٌ ومُدانة، صوتٌ يُمنح الحقّ في الكلام ليُظهِر ما اختبأ طويلاً. حين تتكلم الفزّاعة، تقلب مسرح الأدوار: من حماية الحقل إلى حفظ الذاكرة، من واجهةٍ زراعيةٍ تُخدّع الطير إلى هيئةٍ قانونيةٍ تَختبر دوافع البشر. الفزّاعة بهذا تصبح قِسراً العَرَض والمرآة، مرآة ترتدّ إلى الجماعة بوجهٍ ملطّخ لا يريد أن يُرى.

 

حواء والأرملة لا تُكمّلَان المشهد كزينةٍ مركزيّة؛ بل هما وعاء الذاكرة الأنثويّة، صرخةٌ لا تتقهقر. حضورهما يحرّر الحزن من طابعه الخاص ليجعله طقساً جماعياً: كل أمٍّ، كل أرملة، كل امرأةٍ فقدت أحداً تصبح هناك، غير قابلة للاختزال. أما نوفل والشاب فهما انعكاس زمانيّ معاصر: وجها العولمة السطحية التي تلتهم الرموز كما يُلتهم طعامٌ جاهز؛ يحوّلان التاريخ إلى قِشرةٍ تُستهلك بسرعةٍ، وهذا التهشيم للتبادل الثقافي في عصر الصورة هو الذي يعرض جثة الماضي لعملية نزفٍ بلا عزاء.

لغة المسرحية تعمل كآلة زمنٍ صوتية؛ تكرار «قاق.. قاق» ليس لحنَ غرابٍ بسيط، بل ذخيرة إيقاعية تُذكّرنا بأن الموت لا يتكلّم بل يهمهم، وأن الذكرى لا تنطفئ إلا بإيقاعٍ جنائزيٍ مستمرّ. الغناء الجماعي واللوحات الإسكتشية التي تُعرض بالفحم تجعل المسرح حقل صور متحركةٍ، لا مجرد متتالية أحداث. القماش الأسود والأبيض، الستائر والطبقات، يتحوّلون إلى أغشية زمنية: يكشف الضوء طبقةً ويخبّئ أخرى، كأن كل رفعٍ أو خفضٍ للقماش هو حفرةٌ تُفتَح في تاريخٍ مدفون. المشهد هنا ليس سرداً فقط؛ إنه رقصةُ ذاكرةٍ ومراسمُ احتفاء بالحزن والندم.

هنالك قراءةٌ اجتماعية للنص تفضح بُعداً سياسياً لا يمكن تجاهله، فالحروب في المسرحية ليست خلفية بل حالة وجودية مستمرة تضع الأرامل في موقعٍ دائم من الخسارة، وتحوّل التاريخ إلى مادةٍ قابلة للاستعمال الإعلامي. «أكْل التراث» الذي يسخر منه النص ليس صورةً بل نقدٌ لسياسة التمثيل التي تبتلع جوهر الذاكرة وتعيد إنتاجها كمادةٍ استهلاكية. المشهد هنا يذكّرنا بأن المخاطر ليست في العنف فحسب، بل في آليات النسيان والسطحية التي تُعيد إنتاج العنف دون مساءلةٍ حقيقية.

من زاوية أخلاقية وفلسفية، لا يقدّم النص حلاً مريحاً. هو يرفض الخلاص السهل والاعترافات الصورية، ويصرّ أنّ الإرث الأخلاقي لا يُمحى بمجموعة كلماتٍ تكتفي بالندم الظاهري. الفزّاعة هنا قد تُقرأ أيضاً ككبشٍ أو مرآة تُعيد لفظَ الذنب إلى فمِ الجماعة، وتقول: إن من يحرس الحقل هو ذاته من يفضح الوجه غير المقبول. النظر إلى ديناميكية الكذبة التاريخية، إلى لغة الشرعية التي تبرّر القتل وتستره، يكشف أن الحل لا يكون إلا بصيرورةٍ معرفيةٍ جماعية، ليست فقط قانونية بل ثقافية وتربوية.

قوّةُ نص زمانان تكمن في ربطه بين الصغائر والأنظمة، بين الجسد والهيكل. هو نصّ لا يخشى التجريب الشعري، لكنه يُغري المخرج أيضاً بأن لا يسمح للتجريب أن يصبح عرضاً منفصلاً عن الأخلاقيّة.

المسرحية تدعونا أيضاً إلى ملفّات عملية متسامية، لا يجب أن يبقى العرض مجرّد فعل استعراضي، بل يمكن تحويله إلى مشروعٍ مجتمعي يُدعى فيه أهالي الضحايا، إلى ورش تدريبية تؤسس لوعيٍّ نفسيٍ وفني، إلى برامج دراسية تُعيد قراءة الأسطورة في ضوء سياسات الذاكرة.

تبقى قراءةُ فزّاعات تجربةً تربويةً على صعيد القدرة على التحمل. النص يرفض المواساة المجهزة، يريدنا أن نجلس مع الجرح بلا تغليفٍ مبالغ، يريد أن يعلّمنا أن تسمية الحيرة أولاً ــ بصعوبة ها ومرارتها ــ هي شرطٌ لئلا تستمر الحيرة نفسها في التشكل إلى قسوةٍ جديدة. المسرحية ليست نداءً للترنيم السريع، بل هي دعوة لتمرين طويل على التأمل، لتمرين جماعي على السؤال دون هروبٍ من الإجابات البسيطة. في هذا التمرين تكمن إمكانية مقاومة ترييف التاريخ وتكرار العنف: ليس بعزل القاتل وحده، بل بمساءلة الآليات التي سمحت له أن يصبح قابيل فينا جميعاً.

فزّاعات نص يُزاوج بين الأسطورة والمعاصرة، بين الطقس المسرحي والتحقيق الأخلاقي، ويقدّم مساحة خصبة للسؤال عن جذور العنف ووراثته. المسرحية ليست دعوة إلى حلّ وحيد، بل مصفوفة من استحضارات الذاكرة التي تردّد أسئلة لا تهدأ: كيف نحاكم وننبش الماضي؟ وكيف نُحرّر الحقول من غربانها؟