الكاتب : النهار
التاريخ: ٠١:٣٦ م-١٨ مايو-٢٠٢٥       8580

 كما هو معروف، سيعقد الاجتماع الأول لحوار ترمذ حول الاتصال بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا، المخصص لموضوع "بناء مساحة مشتركة للسلام والصداقة والازدهار"، في ترمذ في الفترة من 19 إلى 21 مايو 2025.

ومن المتوقع أن يشارك في هذا الاجتماع ممثلون عن وكالات السياسة الخارجية في دول وسط وجنوب آسيا، التي أصبحت محط أنظار السياسة العالمية، فضلاً عن ممثلي المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية مثل رابطة الدول المستقلة، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا، والمتخصصين والخبراء البارزين في المجالات ذات الصلة.

لطالما ارتبطت منطقتا وسط وجنوب آسيا بطرق تجارية موثوقة، وشكلتا جسرًا بين دول الشرق الأوسط وأوروبا والصين، وتشترك شعوب هذه المنطقة في قواسم تاريخية وحضارية مشتركة، إذ تواجدت مرارًا وتكرارًا ضمن روابط دول مشتركة في الماضي، وكذلك ضمن فضاء سياسي واقتصادي وإنساني واحد، وعلى مر القرون، تعززت العلاقات بين المنطقتين بفضل تدفقات الهجرة العديدة، والتبادلات التجارية المكثفة، والانتشار السريع للأفكار العلمية، والتلاقح الثقافي.

نتيجةً لانتشار الزرادشتية والهندوسية والبوذية والإسلام في هذه المناطق، تشكّلت روابط عرقية وثقافية فريدة، تركت أثرًا عميقًا في التاريخ البشري، وكان لاندماج شعوب هذه المنطقة في دول مثل مملكتي بختر وكوشان، وخاقانية الترك، وخراسان، وبلاد ما وراء النهر، والإمبراطوريات الغزنوية والتيمورية والمغولية تأثيرٌ بالغٌ على تطورها التاريخي والثقافي والسياسي، وتشكلت عادات وتقاليد وأنماط حياة وأعياد مشتركة، ونشأت قيم روحية مشتركة بلغات مختلفة في المنطقتين.

أثر التنافس المتبادل بين القوى الاستعمارية سلبًا على الروابط التقليدية والتجارة والتبادل الثقافي بين شعوب وسط وجنوب آسيا، وتغيرت العلاقات التجارية والاقتصادية في جنوب آسيا، وأصبحت أنظمة الإمداد المحلية والصناعات الرئيسية والاقتصادات تعتمد على الإمدادات من خارج المنطقة، وأضعف هذا التطور الروابط الثقافية التقليدية بين  جنوب آسيا  وآسيا الوسطى.

اليوم، يُعدّ التعاون في معالجة المشكلات القائمة التي تُهدد السلام والاستقرار في المنطقة أحد العوامل المهمة في التنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لهذه الدول، ولذلك، يكتسب تجديد الروابط التاريخية الوثيقة بينهما أهمية متزايدة. وفي ضوء ما سبق، يجري حاليًا تنظيم حوار ترمذ حول التواصل بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا.

يرتبط اختيار موقع الحوار بموقع المدينة الجيوستراتيجي، إذ تقع على مفترق طرق بين وسط وجنوب آسيا، أو على ملتقى طرق الاتصال بين المناطق. لطالما كانت ترمذ مركزًا للتجارة والاقتصاد والحرف، ورابطًا بين المناطق الشاسعة في وسط وجنوب آسيا، لذلك، من منظور جيوسياسي، يمكن اعتبار المدينة "جسرًا طبيعيًا" يربط وسط وجنوب آسيا، وهي المكان الأنسب للتقريب بين شعوب المنطقة بفضل موقعها التاريخي وتراثها الثقافي.

تُمثل دول وسط وجنوب آسيا حاليًا منطقةً ذات أهمية عالمية، إذ يتجاوز عدد سكانها ملياري نسمة، وتتمتع بإمكانات تعليمية هائلة. تشهد المنطقة نموًا ديموغرافيًا مرتفعًا، حيث يشكل الشباب غالبية السكان، وتتوافر فرص هائلة لتنمية القدرات الفكرية، في حين يبلغ عدد سكان دول  جنوب آسيا  حوالي ملياري نسمة، يبلغ عدد سكان آسيا الوسطى حوالي 82 مليون نسمة، وينمو عدد سكان دول آسيا الوسطى عامًا بعد عام، تُظهر هذه الدول "تفاوتًا في مستويات الإلمام بالقراءة والكتابة"، على سبيل المثال، يبلغ متوسط معدل الإلمام بالقراءة والكتابة بين البالغين 99% في الدول الرائدة في آسيا الوسطى، بينما يبلغ 74% في جنوب آسيا.

من المشاكل المُلحة تفاوت جودة التعليم، وضعف تغطية التعليم ما قبل المدرسي والتعليم العالي، لا سيما بين الفتيات وسكان المناطق النائية، في جنوب آسيا، لا تزال معدلات البطالة بين الشباب مرتفعة، وتتجاوز في بعض البلدان 40%، في الوقت نفسه، يُعدّ معدل توظيف النساء من أدنى المعدلات في العالم، إضافةً إلى ذلك، فإن البنية التحتية للأنظمة التعليمية غير مُتطورة بما يكفي، كما أن نقص الأخصائيين ومؤهلات المعلمين يُسبب عددًا من المشاكل.

في هذا السياق، يتزايد أهمية التعاون في مجال العلوم والتعليم، وسيتيح التعاون العلمي في ظلّ الرقمنة وعدم الاستقرار الجيوسياسي الحفاظ على الحوار بين الأوساط الأكاديمية، في الوقت نفسه، يُعيق ضعف الحراك الأكاديمي وضعف التنسيق بين الأوساط العلمية بشكل كبير تطوير إمكانات الدول في مجالات العلوم والابتكار والتكنولوجيا.

وفي هذا الصدد، من الضروري تشجيع العمل البحثي والابتكاري المشترك، وتنظيم التدريب العلمي والتعليمي، وبرامج تبادل الخبرات، وتطوير الشركات الناشئة، وإقامة المسابقات.

أصبح اعتماد برنامج مشترك للتبادل الأكاديمي والبحثي برعاية اليونسكو أمرًا بالغ الأهمية، كما أصبح من الضروري إطلاق منصة إلكترونية بين الجامعات والهيئات البحثية في دول وسط وجنوب آسيا.

وسيساهم هذا في إنشاء شبكة إقليمية مستدامة للدبلوماسية العلمية، وتشكيل أجندة مشتركة في مجال التعليم والتكنولوجيا، وظهور فضاء علمي موحد.

وستكون الخطوات المذكورة أعلاه بمثابة أداة قوية لتطوير الدبلوماسية العلمية، مما سيسهل التفاعل بين بلدان المنطقتين.

من هذا المنطلق، يُعدّ تكامل الموارد الفكرية في وسط وجنوب آسيا، وتعزيز التعاون في مجال التعليم، وتطوير منصات تعاونية لتحسين جودة التعليم، عوامل بالغة الأهمية لمستقبل المنطقة، ويُعدّ تحويل الإمكانات الديموغرافية إلى رأس مال بشري الشرط الأساسي للتنمية المستدامة والنمو الاقتصادي، ومكانة مرموقة في المنافسة العالمية لكلتا المنطقتين، وفي هذا الصدد، يُعدّ تطوير التعليم، باعتباره أحد المجالات ذات الأولوية للتعاون الإقليمي، وإقامة شراكات لتبادل الخبرات وتدريب الكوادر في مختلف البلدان، من أهمّ الأولويات.

في العقود الأخيرة، احتلت دول  جنوب آسيا  مكانةً بارزةً في المجتمع الدولي في مجالات العلوم والتكنولوجيا والابتكار، وتُحرز باكستان تقدمًا ملحوظًا في مجال العلوم، لا سيما في مجال الطاقة النووية والتقنيات العسكرية، وتلعب مراكزٌ مثل جامعة كومساتس ومعهد باكستان للهندسة والعلوم التطبيقية (PIEAS) دورًا محوريًا في التطور العلمي للبلاد، ويجري تنفيذ برامج حكومية لتعزيز التعاون الدولي في مجال تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني.

تشهد الهند تطورًا متسارعًا في مجالات تكنولوجيا المعلومات، والطيران، وإنتاج الأدوية، والذكاء الاصطناعي، وفي مجال تكنولوجيا المعلومات، أصبحت البلاد من أكبر مراكز الاستعانة بمصادر خارجية في العالم.

في بنغلاديش، إلى جانب صناعة النسيج والصناعات الخفيفة، تشهد تكنولوجيا المعلومات تطورًا متسارعًا، واستنادًا إلى استراتيجية "بنغلاديش الرقمية"، طبّقت البلاد على نطاق واسع خدمات الحكومة الإلكترونية والرقمية والتعليم عن بُعد. في عام ٢٠٢١، أُنشئت أكثر من ١٢٠ حديقة تكنولوجيا معلومات في بنغلاديش، مما يُبرز التزام البلاد برقمنة اقتصادها.

لا تزال الإمكانات العلمية والتكنولوجية لأفغانستان محدودة، وتشكل المشاكل المتعلقة بالاستقرار السياسي عائقًا أمام تطورها، ومع ذلك، تُشارك بعض الجامعات والمؤسسات التعليمية في البلاد، وخاصة جامعة كابول، في مشاريع علمية بدعم من منظمات تعليمية دولية مختلفة.

في هذا السياق، يُعدّ وضع استراتيجية مشتركة للربط الرقمي بين وسط وجنوب آسيا أمرًا بالغ الأهمية، وسيتيح اعتماد هذه الوثيقة فرصًا واعدة لتحفيز التجارة والاستثمار، وتحسين فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية، وتعزيز التعاون الإقليمي، وزيادة القدرة التنافسية على الساحة العالمية.

إن تنسيق جهود دول وسط وجنوب آسيا لتطبيق الاقتصاد الرقمي على نطاق واسع سيسهم في تحسين عمليات الرقمنة في جميع مجالات الحياة، علاوة على ذلك، سيعزز هذا تنفيذ مبادرة أهداف التنمية المستدامة لضمان وصول آمن إلى الإنترنت للسكان، وسيتيح فرصًا كبيرة للتعليم والخدمات الطبية.

وبشكل عام، فإن تعميق الاتصال الرقمي بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا من شأنه أن يحقق فوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة للمنطقتين، ويخلق أساسًا متينًا لتوسيع الروابط التجارية والاقتصادية والطاقة والنقل، ويعزز القدرة التنافسية لدول المنطقة على الساحة العالمية.

بشكل عام، يُعدّ حوار ترمذ مبادرةً مهمةً تُسهم في الارتقاء بالتفاعل بين دول وسط وجنوب آسيا إلى مستوى جديد في سياق التحولات الجيوسياسية والحضارية الراهنة، وسيُحفّز هذا الحوار، لا سيما في مجالات التعليم والعلوم والتقنيات الحديثة، الإمكانات الفكرية للمنطقتين ويعززها ويوسعها، ويعود ذلك إلى أن غالبية سكان المنطقتين من الشباب الذين يُبدون اهتمامًا بالغًا بالتعليم، ولديهم القدرة على البحث العلمي، ويتكيفون بسرعة مع التقنيات الرقمية.

اليوم، حققت دولٌ مثل الهند وباكستان وبنغلاديش نجاحاتٍ عالميةً في تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية والفيزياء النووية والطب والذكاء الاصطناعي، بينما تتخذ أوزبكستان وكازاخستان ودولٌ أخرى في آسيا الوسطى إجراءاتٍ فعّالة لتحديث بنيتها التحتية العلمية، وتوسيع نطاق التعاون الدولي، وتنفيذ مشاريع تعليمية حديثة، ويُمثّل حوار ترمذ فرصةً فريدةً لدمج هذه الخبرات والإنجازات، وإقامة برامج تبادل طلابي وعلمي، وإنشاء مراكز بحثية مشتركة، وتطوير شركات ناشئة ومنصات ابتكارية في تكنولوجيا المعلومات ومجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.

لهذا الحوار أهمية تاريخية بالغة في ضمان الاستقرار الإقليمي، وإرساء أسس السلام والتقدم والتنمية الفكرية من خلال العلم والتعليم، وتتمتع دول وسط وجنوب آسيا بالقدرة على أن تصبح مركزًا فكريًا رائدًا في الفضاء الأوراسيوي بأكمله، استنادًا إلى مبدأ الثقة المتبادلة والمصير المشترك، والتكامل في مجالات التعليم والعلوم.