

قصة للطالبة رهف جلال - الصف الأول الثانوي
تسيرُ ببطء متأملة كل الشوارع، يكتنفها الشجن، ويلفح وجهها برد الشتاء..
تغوصُ في ثيابٍ بالية رقيقة كرقة قلبها، وتمضي في دهشةٍ تنفض غبار كل الذين تركوها وحيدة، وانشغلوا عنها؛ لتتحرر منهم.
تقذفهم ككرة البلياردو أو كرة الثلج في صقيعٍ أيبس يديها.
وتتقلص قائمة اهتماماتها وأحلامها بينما تتمدد أمامها الأحزان، لتكتنف قلبها..
تهانفت.. واحمر أنفها ثم هوت أرضاً على أحد الأزقة الفارغة.
قائلة: كم قلتُ لهم أنه المريض النفسي ولستُ أنا!
لقد عاشت "جانين" يتيمة الأم مع والدها الذي عزلها لخوفه من أقرانها..
وحينما تمردتْ وصرختْ أول صرخةٍ لرفض ذلك ...
زجّ بها في عيادة للأمراض النفسية كونها لا تُجيد الحوار وترفض قراراته وتبكي بعصبية ..
كان الطبيب النفسي – من وجهة نظرها – القشّة التي قصمت ظهرها ..
فهيئته مرعبة وكلامه يهوي بها في خضمّ الوهن والمرض ..
وفي آخر جلسة لها معه في الحادي عشر من فبراير ألقت على وجهه الملف لتتساقط كل الأوراق كروحها ..
وهربت دون أن يلمحها أحد ...
ومضت تهرول تارة وتركض أخرى إلى أن وصلت لغرفة بآخر الممر فدخلت تلتقط أنفاسها..
وفي تلك الأثناء دخلت احدى الطبيبات فارتعدت فرائصها ....
- الطبيبة: مهلا من أنتِ؟
- "جانين" هربتُ من ذلك الوحش .....
- الطبيبة : أيّ وحش ؟
وبدتْ تسرد القصة ...
لم تكن تعلم "جانين" أنها دخلت إلى متاهة أخرى من متاهات العلاج النفسي.
جلست أمام الطبيبة اللطيفة ترتجف ..
والطبيبة تخيط جروحا لا نراها وتفك قيدها الوهميّ بنظراتٍ كانت بردا وسلاما..
ظلّت في حديث طويل معها وكأنها وجدت نصفها الآخر..
جانين: " بكلِّ انكسار" آهٍ يا دكتورة..
إن العائلة عندما تخذلك لا تخذلك وحدها، بل تعطي تقريرا بالموافقة لكل من يخذلك، أو سيخذلك مستقبلا..
العائلة هي المسؤول الأول عن استمرار دائرة الخوف والتردد والخذلان.. إن لم تأخذ بأيدينا ...
ولم يقطع حديثها إلا دخول الممرضة قائلة: هذهِ أنتِ يا جانين!
والدك والطبيب يبحثان عنكِ ...
الطبيبة: أتعرفيها من قبل؟
الممرضة: نعم، لقد أتى بها والدها عندما كانت طفلة، وكنت مسؤوله عن حالتها في عيادة 165، ولم أر منها ما يدل على أنها مريضة سوى حديثها مع نفسها..
قاطعتها جانين: لن أذهب لذلك الطبيب العاجز عن فَهمي ..
أنا لستُ مريضة.. أنا أريد أن أهرب إلى الناس، أحدثهم، أُصادقهم، أعيش بهذا العمر الجميل مع صديقاتي..
وتضحكُ "جانين" بصوتٍ عالٍ هستيريّ قائلة: أنا طبيبةُ نفسي، أنتم من تصنعون الوهم والمرض.. ذلك الحرص الشديد والخوف والقلق إنما هو بداية المرض، وسبب انفجاري الآن ...
ندوبٌ حُفرت على قلبي جرّاء ذلك التعامل، فأنا الآن بائسة وحيدة حزينة..
أبكي على نَفسِي مِن نَفسِي.. "وبكى بعضي على بعضي معي"
احتضنت الطبيبة جانين قائلةً: (أُغلق الملف في عيادة 165)
وفُتح لكِ ملفا هنا " وأشارت الطبيبة لقلبها "
ومنذ اللحظة أنا وأنتِ صديقتان..
ثم أردفتْ قائلة هناك أديب فرنسي قال: ذات يوم شكوت من صداع في رأسي، ثم اكتشفت أن سببه مسمار صغير في حذائي!
حينها قررتُ أن أقتلعَ المسامير من حياتي لأُشفى..
فلا تجعلي ما مضى من حياتك يا "جانين" عائقا لبقية الأيام..
فالأمل ينتظرك والنجاح سيكون حليفك..
خذي هذا الملف وألقيه في أقرب حاوية فالمصحة ليست لكِ..
ابتسمت "جانين" وتنفست الصعداء لأول مرة..
وأغلق باب (عيادة 165) بعد أن ألصقت عليها عبارة:
(قلوب الوالدين مصحّات نفسية)
إضاءة:
احتواء الأبناء والقرب منهم ومصاحبتهم والتعامل معهم بلطف يبني الثقة ويُشعرهم بالحب والأمان.

