

بقلم - ريماس الصينية – صحفية في CGTN العربية
في السردية الكبرى لتطور البشرية، يظل السؤال الأهم هو كيف يمكن قيادة دولة يتجاوز عدد سكانها مليارا وأربعمائة مليون نسمة نحو مسار التحديث؟ لقد قدمت الصين، عبر نهجها الفريد والفعال المعروف باسم "الخطط الخمسية"، إجابة عملية على هذا التحدي غير المسبوق. ومع تركيز أنظار العالم اليوم على الخطة الخمسية المقبلة (2026-2030)، من المفيد أولا فهم طبيعة هذا الإطار الاستراتيجي الذي قاد الصين لتحقيق إنجازات تاريخية غير مسبوقة.
فهم "البوصلة" الصينية للتنمية – الخطط الخمسية
الخطة الخمسية هي وثيقة وطنية متوسطة وطويلة المدى تحدد اتجاهات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الصين، وهي نظام سياسات يجمع بين التوجيه الاستراتيجي وآليات السوق. وتتميز عملية إعدادها بكونها نموذجا للمشاورة الديمقراطية وصنع القرار العلمي: من اقتراح اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، مرورا بصياغة الحكومة للمسودة، ومناقشتها في المؤتمر الاستشاري السياسي، ثم اعتمادها من قبل البرلمان الوطني، لتصبح في النهاية برنامج عمل جامعا لإرادة الأمة الصينية.
كل خطة خمسية تمثل خريطة دقيقة تقود "السفينة الصينية" وسط أمواج التغيرات العالمية، محددة أهداف التنمية ومهام الإصلاح خلال خمس سنوات في مجالات الاقتصاد، والعلوم، والبيئة، والرفاه الاجتماعي، والأمن الوطني. ومنذ الخطة الأولى عام 1953 وحتى اليوم، أثبت هذا النظام فاعليته في ضمان الاستمرارية والاستقرار، وتعبئة الموارد لإنجاز المشاريع الكبرى، ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية بخطى ثابتة، وهو ما مكن الصين من تحقيق "المعجزة التنموية" التي أبهرت العالم.
محطات مضيئة في مسيرة التنمية الصينية
منذ الخطة الأولى، تتابعت الخطط الخمسية لتشكل سلسلة من المنعطفات التاريخية التي غيرت وجه الصين وأثرت في العالم بأسره.
فقد وضعت الخطة الأولى (1953–1957) أسس التصنيع الوطني، عبر بناء 156 مشروعا صناعيا رئيسيا بمساعدة الاتحاد السوفييتي، ما أرسى قاعدة صناعية متكاملة للصين الحديثة.
أما الخطة السادسة (1981–1985) فقد أطلقت إصلاحات الانفتاح الاقتصادي، حيث انتقل تركيز الدولة إلى التنمية الاقتصادية، وتم تنفيذ نظام "المسؤولية الأسرية" في الزراعة وإنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة، ما حرر الإنتاجية وأطلق شرارة النمو السريع.
وخلال الخطة التاسعة (1996–2000) تم ترسيخ مفهوم "اقتصاد السوق الاشتراكي" من خلال إصلاح المؤسسات العامة والنظام المالي، ومهدت لانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وحافظت على استقرار الاقتصاد خلال الأزمة الآسيوية.
أما الخطة الثالثة عشرة (2016–2020) فقد شهدت إنجازا تاريخيا تمثل في القضاء التام على الفقر المدقع، حيث خرج نحو مئة مليون مواطن من دائرة الفقر وتم رفع 832 محافظة من لائحة الفقر في إنجاز غير مسبوق في تاريخ البشرية. وفي الوقت نفسه، حققت الصين طفرة علمية وتقنية مذهلة تمثلت في نجاح مهمة "تيانون" لاستكشاف المريخ، ومهمة "تشانغ آه" لاستكشاف القمر، وكذلك الغواصة الصينية المأهولة "فندوتشه" التي وصلت إلى عمق يتجاوز عشرة آلاف متر في أعماق البحار. كما شهدت البنية التحتية نقلة نوعية ضخمة، إذ تجاوز طول شبكة القطارات فائقة السرعة 35 ألف كيلومتر، لتحتل الصين المرتبة الأولى عالميا من حيث طول التشغيل والابتكار التكنولوجي، ما جعلها رمزا للتنمية المستدامة والتقدم الشامل.
إنجازات "الخطة الخمسية الرابعة عشرة" – عقد جديد من التنمية عالية الجودة
تعد "الخطة الخمسية الرابعة عشرة" (2021–2025) المرحلة الأولى لتحقيق الهدف المئوي الثاني لبناء دولة اشتراكية حديثة وقوية. ومع اقتراب نهايتها في عام 2025، باتت معظم مؤشرات الخطة تسير وفق التوقعات أو تتجاوزها، بما يفتح آفاقا جديدة للتعاون الصيني العربي، وخاصة مع المملكة العربية السعودية.
حققت الصين تقدما نوعيا في مجالات الرقائق المتقدمة والذكاء الاصطناعي والفضاء، ما أتاح فرصا واسعة للتعاون مع الدول العربية. فالتعاون بين مشروع "تشانغ آه" الصيني ومركز الأقمار الصناعية السعودي مثال على الشراكة العلمية المتنامية، إلى جانب التعاون في مجالات الجيل الخامس والمدن الذكية والبنية الرقمية، مما يعكس انتقال العلاقات من "شراكة الطاقة" إلى "شراكة الابتكار".
وباتت الصين رائدة عالميا في صناعات الطاقة النظيفة كالرياح والطاقة الشمسية وتخزين الطاقة، وهو ما يتوافق تماما مع "رؤية السعودية 2030" التي تركز على التحول نحو الطاقة المستدامة ومشاريع مثل "نيوم" و"الرياض الخضراء". وتشكل المشاريع المشتركة في مجالات الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية نموذجا للتكامل بين التكنولوجيا الصينية والطموح السعودي.
كما أن التطور السريع للصناعات الصينية مثل السيارات الكهربائية والتصنيع المتقدم ينسجم مع أهداف السعودية لتنويع الاقتصاد وتطوير القطاع الصناعي، ما يفتح آفاقا واسعة للتجارة والاستثمار والتكامل في سلاسل التوريد.
آفاق "الخطة الخمسية الخامسة عشرة" – فرص جديدة للشراكة الصينية العربية
مع اقتراب إطلاق "الخطة الخمسية الخامسة عشرة" (2026–2030)، تدخل الصين مرحلة جديدة من التنمية، وتدخل علاقاتها مع العالم العربي "العصر الذهبي" للتعاون الاستراتيجي.
ستركز الخطة المقبلة على تطوير "القوى الإنتاجية الجديدة" القائمة على التكنولوجيا العالية والجودة العالية، مما سيفتح مجالات تعاون أوسع بين الصين والدول العربية في ميادين الذكاء الاصطناعي، والطب الحيوي، والتكنولوجيا منخفضة الكربون، لتصبح هذه المجالات منصات مشتركة للابتكار والاستثمار المتبادل.
كما ستولي الصين أهمية أكبر لأمن الغذاء والطاقة وسلاسل التوريد، وهو مجال تلعب فيه المملكة العربية السعودية دورا محوريا عالميا. ويمكن للصين أن تساهم بخبرتها في الزراعة الحديثة والخدمات اللوجستية لتعزيز الأمن الاقتصادي والغذائي في المنطقة العربية.
ولن يقتصر التعاون على الاقتصاد، بل سيمتد إلى الثقافة والتعليم والسياحة، ليعيد الحوار بين الحضارتين الصينية والعربية إلى الواجهة، ويغذي بناء "مجتمع المستقبل المشترك" بين الجانبين.
شراكة من أجل الازدهار المشترك
تشكل الخطط الخمسية في الصين خطا متصلا يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، وشاهدا على المسيرة العظيمة التي انتقلت فيها الصين من الفقر والضعف إلى الازدهار والقوة.
واليوم، بينما تقود المملكة العربية السعودية برؤيتها الطموحة "رؤية 2030" مسار التنمية في العالم العربي، فإن التجربة الصينية وإنجازاتها، وما أظهرته من صدق النية واتساع آفاق التعاون في إطار "الخطة الخمسية الرابعة عشرة" و"الخطة الخمسية الخامسة عشرة"، تجعلها شريكا أساسيا في تحقيق أهداف التحول والتنمية في المنطقة العربية.
ومن طريق الحرير القديم إلى المواءمة بين مبادرة "الحزام والطريق" و"رؤية 2030" اليوم، تقف الصين والسعودية وسائر الدول العربية على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة.
إن ما نخطط له معا لا يقتصر على مشروعات البنية التحتية أو التعاون الاقتصادي، بل يمتد إلى بناء مستقبل يقوم على الازدهار المشترك والتواصل الحضاري، ويعبر عن إرادة جماعية لصياغة عصر جديد من التعاون والتنمية المتبادلة.

