الكاتب : النهار
التاريخ: ١١:٠١ م-٢٣ سبتمبر-٢٠٢٥       4400

بقلم -سيماء المزوغي

في الفجر، تتسلل الشمس على الرياض كرسائل صامتة من الزمن، تلمس الأبراج الزجاجية التي تتسلق السماء بلا توقف، وتداعب الأزقة القديمة التي تحمل بين جدرانها همسات الأجداد. الأسواق تستيقظ برائحة القهوة العربية، وتمتزج التوابل مع ضحكات الأطفال، والموسيقى الشعبية تنسج جسورًا خفية بين الماضي والحاضر. في زاوية مقهى صغير، شاعرة تهدهد الحنين بخط متردد، تجمع بين ذكريات القرية وأحلام المدن الحديثة، وفنانة تمزج الخط العربي القديم بالصور المعاصرة، لتخلق لوحة حيّة تتنفس المملكة قبل الخرائط والمشاريع، قبل المباني، قبل السياسة، قبل أي شيء رسمي.

الناس هنا يحيكون الأرض بعقولهم وقلوبهم. كل ابتسامة، كل حركة، كل نص مكتوب، يحمل جينات ثقافية متوارثة: الكرم، الصدق، الوفاء، الشجاعة، الطموح، النقدية، روح السلام. بدرية البشر، رجاء عالم، هيفاء رضوان، عبد الله المغلوث، صالح زمانان… كل واحد منهم نافذة إلى الإنسان الذي يعيش الأرض قبل أن تعيشه الخرائط، وكل نص نافذة إلى المملكة قبل أن تراها العين على الخريطة.

في جدة، البحر الأحمر يمتد بلا حدود، صيادو اللؤلؤ يخرجون قبل الفجر، عيونهم يقظة، وصبرهم حكاية متوارثة، تحكي قرونًا من الكفاح والصبر والإبداع. الأسواق القديمة ترقص مع الموسيقى الشعبية، وابتسامات الباعة تخلق جسورًا خفية بين الناس والزمن، بين الفرد والجماعة، بين الماضي والحاضر، بين الجذور والطموح. التفاصيل الصغيرة تكشف قدرة الإنسان السعودي على المزج بين الجذور والطموح، بين التقليد والابتكار، بين الحذر والفضول، بين الفكر والعمل، بين الفرد والمجتمع، بين الحلم والواقع.

مرآة المملكة تتراءى رؤية  تنساب كخيط رفيع يربط المشاريع والمدن، المبادرات الثقافية، دعم المسرح والموسيقى والفنون، تمكين المرأة والشباب، الابتكار في الطاقة والمواصلات. كل مشروع ينبع من احترام الجذور، ويعيد صياغة الحداثة كامتداد طبيعي للأصالة، وكل فكرة جديدة تمر كالنسيم على القلوب، تلمس الروح قبل الخرائط، لتؤكد أن المملكة تُبنى في الناس قبل المباني، في الفكر قبل السياسة، في الأحلام قبل الواقع، في الحلم قبل الخريطة.

الكاتب ينحني أمام الذكاء، يحفر في الكلمات ليكشف عن المعاني المخفية، يقرأ التاريخ بعين مفتوحة، يحوّل الحيرة إلى رؤية، والخيال إلى فهم. المفكر يتأمل ويعيد اكتشاف الأسئلة القديمة والجديدة، يمسح الغبار عن الأفكار ويعيد لها نورها. في هذه اللحظات، يولد الحوار بين الماضي والحاضر، بين الواقع والاحتمالات، بين الإنسان ووطنه، فتتفتح الآفاق، ويصبح كل نص نافذة جديدة، وكل فكرة نبضة حياة تضيف إلى نسيج المملكة المتجدد، كل نص مثل نهر ينساب، يربط الحاضر بالمستقبل، الماضي بالخيال، الفرد بالمجتمع، الثقافة بالروح، والإنسانية بالهوية.

الشاعرة تصنع الحنين قصيدة، الفنان يعيد تفسير الحرف للمدن الحديثة، والدبلوماسي يستقبل الغريب بالدفء والاحترام، كلهم ينسجون شبكة الجينات الثقافية: الإنسانية، النقدية، الوفاء، الطموح، الصدق، الشجاعة. في كل حركة، في كل ابتسامة، في كل نص يُكتب، تتنفس المملكة بروح أهلها، ويصبح المكان حياً، نابضًا، حاملاً الحلم والوعي في آن واحد.

في الأزقة والطرقات، يمكن سماع همسات النصوص كما لو كانت أصوات حية: التاريخ يتحدث عن الدم والهوية، الفن عن الحلم والتجديد، الأدب عن الحنين والمعنى، الفكر عن التأمل والاكتشاف. كل همسة، كل لحظة صغيرة، تضيف طبقة إلى المملكة، تجعلها متصلة بالعالم لكنها تحافظ على نفسها، تجعلها حية في العقل والروح قبل الخرائط.

المدن ليست مجرد أماكن، بل أرواح تُقرأ، كل زاوية، كل مقهى، كل شارع، يحمل حياة وثقافة، يحمل قصة إنسان، يحوي صدى القرون القديمة في قلب الحاضر. هنا، في الرياض أو جدة، تتقاطع الأصالة والحداثة، التراث والفكر، الحلم والفعل، في نسيج حيّ متكامل، كل طبقة فيه حكاية، كل طبقة فيها روح.

مع الغروب، الأبراج تتلألأ بين الضوء والظل، المدينة تتحدث بصمتها الخاص، البحر والجبال والوديان تردد همسات الزمن. المملكة ليست مجرد مكان على الخريطة، بل كيان حي، يتشكل في كل نص يُكتب، في كل ابتسامة تُمنح، في كل مشروع يُنجز، في كل حكاية تُروى، في كل فكرة تولد في المدينة، في كل خطوة يُخطوها الإنسان السعودي.

اليوم الوطني الخامس والتسعين، احتفال بروح المملكة كما تراها العين الخفية: بالإنسان قبل المكان، بالفكر قبل الصورة، وبالأخلاق قبل كل شيء. لم أزر المملكة جسديًا، لكنني زرتها عبر الثقافة والفكر، عبر أخلاق أهلها وقيمهم، عبر النصوص التي كتبوها، والفنون التي ابتكروها، والحوارات التي خاضوها، لتصبح المملكة حية في قلبي وعقلي قبل الخرائط، أملًا متجددًا، ككيان يتشكل مع كل يوم يعيش فيه السعوديون وطنهم، ويعيدون معه صياغة معنى الأصالة والحداثة، الحلم والمعرفة، الإنسان والمكان، الحياة والفكر، الروح والواقع.