

بقلم - خلود فيصل الزهراني
سجّل التاريخ في الخامس من شوّال 1319هـ/15 يناير 1902م بداية مسيرة جديدة، حين استردّ الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود مدينة الرياض، لتبدأ رحلة التوحيد التي توّجت بإعلان توحيد البلاد تحت مسمّى «المملكة العربية السعودية» بموجب الأمر الملكي رقم (2716) وتاريخ 17 جمادى الأولى 1351هـ/18 سبتمبر 1932م، والذي تم فيه اختيار يوم 21 جمادى الأولى 1351ه/ 23 سبتمبر 1932م، موعدًا رسميًا لإعلان التوحيد، ومن هنا جاء ارتباط هذا التاريخ باليوم الوطني، الذي نحتفل اليوم بذكراه الخامسة والتسعين، مستحضرين تلك اللحظة الفارقة وما تبعها من مسيرة تنظيمية وضعت اللبنات الأولى لدولة قوية وموحّدة تجمع بين الأصالة والحداثة.
وخلال تلك العقود الأولى انصرفت جهود الملك إلى القضاء على الفتن الداخلية وتجاوز الخلافات القبلية وترسيخ الأمن والاستقرار، وهو ما مثّل القاعدة الصلبة التي بُنيت عليها الدولة الحديثة، غير أنّ المملكة في تلك المرحلة كانت تفتقر إلى جهاز مركزي موحّد، حيث تباينت التنظيمات الإدارية بين الحجاز والأحساء ونجد، مما دفع الملك إلى الإبقاء عليها كما هي حتى تحقق التوحيد، ليبدأ بعد ذلك مسارًا متدرّجًا لبناء جهاز إداري حديث استمر ثلاثين سنة أخرى.
وفي هذا الإطار، استطاع الملك عبد العزيز أن يدير شؤون نجد والأحساء وعسير وحائل من دون إطار وزاري رسمي، مكتفيًا برئاسته المباشرة للدولة عبر قصر الحكم والديوان الملكي، وعندما دخل الحجاز عام 1343هـ/1924م برزت الحاجة إلى ترتيبات أكثر وضوحًا، فانعقد اجتماع في 22 جمادى الأولى 1343هـ/18 ديسمبر 1924م أسفر عن إنشاء «المجلس الأهلي» المكلّف بإدارة الشؤون الداخلية، ثم أعقبه إنشاء لجنة أهلية في جدة وتعيين الأمير فيصل نائبًا للملك في الحجاز عام 1344هـ/1926م مدعومًا بمجلس استشاري وهيئة تأسيسية، وفي الرياض ظل الديوان الملكي—المعروف آنذاك بـ«ديوان الشيوخ»—مصدر السلطة والمرجع المباشر لجميع الشؤون، مستندًا إلى الشريعة الإسلامية وإلى أسلوب المجالس المفتوحة الذي يتيح سرعة اتخاذ القرار، وهو ما يعكس طبيعة المرحلة الأولى التي اتسمت بالاعتماد على التنظيم المحلي والتدرج في إرساء المركزية، ولمّا اكتمل بناء قصر المربّع عام 1357هـ/1938م انتقلت إليه معظم إدارات الديوان الملكي ليصبح مقر الحكم ومكان استقبال الوفود والسفراء وعقد الاتفاقيات، كما تطورت داخله الشعب المتخصصة مثل الشعبة السياسية و وشعبة البرقيات وغيرها.
وفي سياق موازٍ، لم يُغفل الملك عبد العزيز مبدأ الشورى الذي شكّل ركيزة أساسية في إدارة الدولة، إذ أنشئ أول مجلس منتخب في 24 جمادى الأولى 1343هـ/20 ديسمبر 1924م، ثم أعيد تنظيمه في العام التالي ليضم ممثلين عن حارات مكة وبعض العلماء والتجار، وجاءت «التعليمات الأساسية لنظام الحكم» عام 1345هـ/1926م لتؤكد هذه البنية وتعيد تسمية المجلس باسم «مجلس الشورى» وتحدد عدد أعضائه ومدد عضويتهم، ثم عُدّلت مواده عام 1346هـ/1927م ليصبح أكثر تنظيمًا ويضطلع بمهام واسعة في الميزانيات والمشروعات والأنظمة والعقود، مع لجان متخصصة تعكس تطور العمل المؤسسي، ومنح الملك عبد العزيز المجلس صلاحيات رقابية وتشريعية وأتاح له الحق في لفت نظر الحكومة أو تعديل مشروعاتها، وهو ما عكس تطورًا من المشورة العامة إلى الإطار النظامي للشورى.
ومن زاوية أخرى، شهدت الإدارة المالية مسارًا مشابهًا من التطور؛ فبعد ضم الحجاز تأسست مديرية المالية بمكة ثم تحولت إلى وكالة عام 1347هـ/1928م، قبل أن تُرفع إلى وزارة في 11 ربيع الآخر 1351هـ/14 أغسطس 1932م بصدور نظامها المفصل الذي جعلها مسؤولة عن تنظيم الموارد والمصروفات وإعداد الميزانية.
ولم يكن التعليم والصحة بعيدَين عن هذا التوجه، إذ أنشئت مديرية المعارف العامة عام 1344هـ/1926م، وأُسِس «المعهد العلمي السعودي» لإعداد المعلمين، وابتدأت البعثات العلمية إلى الخارج عام 1346هـ/1927م، ثم تطور الأمر إلى معهد لتحضير البعثات عام 1354هـ/1935م، وصولًا إلى إنشاء وزارة المعارف بعد وفاة الملك عبد العزيز عام 1373هـ/1953م، أما في المجال الصحي فقد تأسست مصلحة الصحة العامة عام 1343هـ/1925م، وانتشرت فروعها في مدن الحجاز ونجد والأحساء وعسير، وبلغ عدد المستشفيات والمراكز بحلول 1368هـ/1949م أحد عشر مستشفى وخمسة وعشرين مستوصفًا وأربعةً وثلاثين مركزًا حكوميًا، قبل أن تتحول إلى وزارة عام 1370هـ/1950م، بما يعكس تزايد الحاجة إلى جهازٍ أكثر شمولًا وتنظيمًا.
وفي ميدان الأمن والدفاع، تدرج البناء المؤسسي من إنشاء مديرية الشرطة العامة عام 1344هـ/1926م إلى المديرية العامة للأمن عام 1363هـ/1944م، مع إدخال مدارس الشرطة والابتعاث الخارجي واستقدام الخبراء، فيما تطور الجيش من وحدات مدفعية ورشاشات ومشاة إلى وكالة للدفاع ثم رئاسة للأركان، حتى تحولت إلى وزارة الدفاع عام 1363هـ/1944م بقيادة الأمير منصور بن عبد العزيز، فشهدت القوات المسلحة تنظيمًا وتسليحًا وتدريبًا حديثًا، كما شاركت في حرب فلسطين عام 1367هـ/1948م، الأمر الذي يبرز البعد الاستراتيجي لبناء المؤسسة العسكرية في وقت مبكر.
وفي سياق متصل، جاءت تجربة الأوقاف لتبرز البعد العمراني والاجتماعي في البناء الإداري، إذ أنشئت إدارة للأوقاف في مكة عام 1343هـ/1924م، ثم رُبطت بالمديرية العامة للأوقاف عام 1354هـ/1935م التي أشرفت على الحرمين، وأسهمت في ترميم المسجد الحرام ومساجد المشاعر ورصف الممرات وإصلاح الأربطة والمباني التجارية، مما يعكس دور الأوقاف في دعم الخدمات الدينية والاجتماعية معًا.
و برزت الحاجة إلى جهاز مركزي ينسّق بين الوزارات المتعددة ويحد من التداخل الإداري، فكان إنشاء مجلس الوزراء في 3 صفر 1373هـ/11 أكتوبر 1953م في الرياض نقطة تحوّل محورية، إذ مثّل هذا المجلس انتقال المملكة من التنظيمات اللامركزية إلى العمل المؤسسي المركزي، إذ أوكلت إليه مهمة رسم السياسات العامة والإشراف على التنفيذ داخليًا وخارجيًا وفق مبادئ الاستقلال وعدم التدخل، وهو ما استكمل الحلقة الأخيرة في تطور الجهاز الإداري خلال عهد الملك عبد العزيز.
و يتضح لنا أن التجربة السعودية في عهد الملك عبد العزيز قامت على منهج التدرج المدروس؛ بدءًا من الإدارة المباشرة والاعتماد على المجالس المفتوحة، ثم الشورى، وترسيخ الضبط المالي، وتطوير القطاعات الخدمية، وبناء الأجهزة الأمنية والعسكرية، وانتهاءً بإنشاء الوزارات ومجلس الوزراء، ولقد حافظ هذا النهج على مرجعية الشريعة الإسلامية، وواكب في الوقت ذاته متطلبات العصر، مما أتاح للدولة أن تنتقل من طور التأسيس إلى طور التنظيم المؤسسي الحديث، وأن ترسخ أركانها على أسسٍ تجمع بين الأصالة والمعاصرة، ومن هنا، فإن ذكرى اليوم الوطني لا تستحضر فقط لحظة التوحيد، بل أيضًا مسيرة التنظيم التي وضعت اللبنات الأولى لدولة قوية وموحدة، وتأتي هذه المناسبة لنستحضر فيها أمجاد الماضي ونستلهم منها قوة الحاضر وعزيمة المستقبل، مؤكدين أن ما بُني على يد الملك المؤسس- رحمه الله- وأبنائه الملوك من بعده سيظل أساسًا راسخًا لوحدة المملكة وازدهارها.
معلومات عن الكاتبة: باحثة دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر.

