

بقلم الأديبة - ريما آل كلزلي
ولأن اللغة التي لا تنعكس على الواقع لا تجدي نفعا، ولأن الصورة النهائية للشعر هي الجمال؛ إذًا يُعد الشعر من أميز أدوات اللغة لمواجهة الحياة وتحدياتها، وقد شهد تحوّلات كبيرة على مر العصور، انتقل خلالها من التركيز على الأغراض السائدة آنذاك (المدح، التمجيد، الرثاء، الغزل، الحب، الوصف، الاعتذار، الحكمة) إلى معالجة قضايا أكثر جرأة وتنوعًا. لم يعد الشعر مقتصرًا على العواطف الرومانسية فحسب، بل أصبح وسيلة للتعبير عن الذات ومعالجة موضوعات اجتماعية وسياسية وثقافية حساسة فبرزت قضايا الحرية والوطنية والقضايا الاجتماعية. هذا التحول شمل أيضًا تجديد الأساليب الشعرية، وكسر القوالب التقليدية، عدا عن اعتماد لغة أكثر حداثة وتجريبية.
الشعر العربي بحر زاخر بجماليات الأدب المتنوعة، تطور من شعر الفخر والمديح بقصائد امرؤ القيس وغيره التي تبعت حياة القبيلة في العصر الجاهلي، إلى الشعر الديني والدعوة في العصر الإسلامي وكان أشهر رواده شاعر الرسول عليه الصلاة والسلام حسان بن ثابت، ثم ازدهر الغزل مجددا في العصر الأموي على لسان شعراء مثل عمر بن أبي ربيعة، وتطوّر الهجاء فأصبح أكثر حدّة وتناسبًا مع الصراعات السياسية، بينما تفتّح ثقافيّا في العصر العباسي وتنوعت أغراضه بسبب الاستقرار السياسي وحركة الترجمة وازدهار المعارف، وكان أبرز شعراء الحكمة المتنبي متوّجا على عروشه، بينما نال ابن زيدون شهرته إلى جانب ولادة بنت المستكفي في العصر الأندلسي الذي تألّق فيه وصف الطبيعة والمرح والاحتفاء بالملذات المتناسبة مع ارتقاء أساليب العيش والتطور، وصولا إلى العصر المملوكي والعثماني الذي تراجع فيه الشعر بسبب الظروف السياسية، مع استمرار المدح والرثاء، وبرز فيه البوصيري الذي كتب في المديح النبوي.
وجد الشعر في الغزل أحد أهم روافده حيث تتجلى فيه العاطفة، فتلألأت نجومه معبرة عن مكنونات النفس والروح، كونه يُعد من أجمل صور الأدب الإنساني، وأكثرها تعبيرًا عن الحب والمشاعر، فيتجلى فيها الغزل بنوعين رئيسيين: الغزل العذري والغزل الإباحي، وكلاهما ينبع من قلب الثقافة العربية ويعكس أبعادها الاجتماعية والثقافية. الغزل العذري هو صورة الحب الروحي العفيف، والغزل الإباحي الذي يعبر عن الحب بمزيد من الجسارة والمادية.
الغزل العذري: بين العفة والجمال
حيث يؤثِر شعر الغزل الحفاظ على الاحترام واللياقة الأدبية، ويركّز على الحب الروحي والعاطفي الطاهر، فيُظهر الشاعر احترامه وإخلاصه للمعشوق دون أن يتعدى حدود الأدب. ليكون ذاك نهج شعري يُعلي من شأن الحب الطاهر والمشاعر الرقيقة، ولا يكتفي بوصف الجمال الظاهري للمحبوب، بل يتعداه إلى الإشادة بالأخلاق والصفات الروحية. جميل بثينة، على سبيل المثال يُعد أيقونة لهذا النوع من الغزل؛ فقد عُرف بحبه الصادق وشعره الذي ينبض بالوفاء والعفة تجاه معشوقته بثينة، ويُظهر لها جميل مشاعره العميقة والصادقة دون تجاوز الحدود الأخلاقية، ويُعانق السماوات بكلماته النقية حين يقول :
كأنّ دموعَ العينِ يوم تحمّلت بثينةُ، يسقيها الرّشاشَ معينُ
ظعائن مافي قربهنّ لذي هوى من النّاسِ إلّا شقوةٌ وفنونُ
ورحنَ وقد أودعن قلبي أمانةً لبثينةَ: سرٌّ في الفؤاد كمين
محلقًا في فضاء العشق الروحي والعاطفي الرصين. يتردد صدى هذا الغزل في أروقة الزمان، وهو يرتقي بالحب إلى مصاف العبادة والتعظيم.
الغزل الإباحي: التعبير دون قيود على النقيض، يخوض الغزل الإباحي في تفاصيل الحب الأرضية بشجاعة ووضوح. ينطق الشاعر فيه بلغة أكثر حرية، مصورًا جمال المحبوب ومفاتنه بشكل ملموس وجسدي.
فالغزل الإباحي هو ذلك النوع من الغزل الذي يتميز بجرأته وصراحته في التعبير عن المشاعر الجسدية والعاطفية دون قيود أو تحفظات. يتناول الحب من منظور حسي بحت، مستخدمًا ألفاظًا وتصاويرًا جريئة قد تصل إلى حد الفحش في بعض الأحيان. هذا النوع من الغزل يُظهر العلاقة بين العاشق والمعشوق في إطار جسدي، متجاهلاً الروابط الروحية والعاطفية العميقة. مثاله عمر بن أبي ربيعة، حيث تغنى بالحب والجمال، مستخدمًا لغة تصف العلاقة الحميمة بين العاشق والمعشوق. وهو الشاعر الذي عُرف بوصفه للمحبوبات ومغامراته العاطفية بأسلوب صريح وجريء. فقال:
وأرى جمالكِ فوق كلّ جميلةٍ وجمالُ وجهك يخطف الأبصارا
لم يتوان عن التعبير عن المودة والشهوة بأسلوب جريء ومكشوف، مُظهرًا تقديره للجمال الإنساني بكل أبعاده، وقد أثارت قصائده الجدل في زمانه بسبب جرأتها وصراحتها.
تتأرجح كفة الشعر العربي بين الغزل العذري والإباحي، مثلما تتأرجح النفس البشرية بين الروحانية والمادية، فيقدم كلا النوعين إطلالة متفردة على الحب والعلاقات الإنسانية، معبرين عن مشاعر وأحاسيس تختلف في درجة العلنية والخصوصية، لكنها تظل موحدة في صدقها وعمقها الإنساني.
الشعر ليس فقط مرآة تعكس التغيرات في المجتمع والفكر الإنساني، بل هو بيئة للتغيير الاجتماعي، تؤثر وتتأثر بالثقافات المختلفة لتحفيز الفكر، مما يغني التجربة الشعرية ويوسع آفاقها؛ فيشهد تحولًا كبيرًا في الأساليب والموضوعات، ومن أبرز هذه التحولات انتقال الغزل إلى قصيدة النثر، تلك القصيدة التي تجاوزت الأوزان والقوافي التقليدية، وركزت على التعبير الحر والعميق عن المشاعر والأفكار من خلال عدة أمور:
1-التعبير الشخصي والجريء: أصبحت قصيدة النثر وسيلة للتعبير عن المشاعر العاطفية بشكل أكثر جرأة وصدقًا. لم تعد تقتصر على الجماليات التقليدية، بل تتناول الحب بعمق وتفاصيل دقيقة. يستخدم فيها الشاعر لغة مباشرة لوصف تجربة الحب بكل ما تحمله من تعقيدات وتناقضات. كما أن تطوير الصوت الخاص شجع التحول على تطوير صوت شعري فريد لكل شاعر، حيث يمكن للشعراء التعبير عن رؤاهم وتجاربهم الشخصية بشكل أكثر استقلال مثل الشاعر نزيه أبو عفش الذي يمتاز بأسلوب عذري وروحاني، يعبر عن الحب بأسلوب هادئ ومؤثر، وأبرز السمات في شعره:
. اللغة المجازية: يستخدم صورًا شاعرية تعبر عن المشاعر العميقة.( قصيدة الحب)
. الحنين والشوق: يركز على العواطف الإنسانية بشكل مؤثر.( أغنيات للغبار)
. الرمزية: يعتمد على الرموز والاستعارات لإيصال الأفكار.( أبجدية ثانية)
كذلك نزار قباني: رغم أنه معروف بالشعر التقليدي، إلا أن بعض نصوصه النثرية تقدم تجربة جديدة في التعبير عن الحب، فيدمج مشاعر الحب بالهموم الاجتماعية والسياسية.
أيتها الأنثى التي يختلط البحر بعينيها مع الزّيتون
يا وردتي ونجمتي وتاج رأسي ربما أكون مشاغباً.. أو فوضويّ الفكر أو مجنون
إن كنت مجنوناً..
وهذا ممكن فأنت يا سيدتي مسؤولة عن ذلك الجنون
أو كنت ملعوناً وهذا ممكن فكل من يمارس الحبّ بلا إجازة في العالم الثّالث يا سيدتي ملعون فسامحيني مرة واحدة
إذا أنا خرجت عن حرفية القانون؟
ومحمود درويش: في قصائده، يعبر عن الحب للوطن والحبيبة بلغة نثرية عميقة ومؤثرة، مشيرًا إلى الترابط بين الشخصي والوطني.
أعدّي لي الأرض كي أستريح
فإني أحبّك حتى التعب
صباحك فاكهةٌ للأغاني وهذا المساء ذهب
ونحن لنا حين يدخل ظلٌّ إلى ظلّه في الرخام
وأشبه نفسي حين أعلّق نفسي على عنقٍ لا تعانق غير الغمام
وأنت الهواء الذي يتعرّى أمامي كدمع العنب
وأنت بداية عائلة الموج حين تشبّث بالبرّ حين اغترب
وأختار أيّامنا بيديّ كما اختار لي وردة المائدة فنم يا حبيبي ليصعد صوت البحار إلى ركبتيّ
ونم يا حبيبي عليك ضفائر شعري عليك السلام يطير الحمام يحطّ الحمام.
2-التنوع الموضوعي في قصيدة النثر، لا يقتصر الغزل على الحب الرومانسي بل يمتد ليشمل حب الذات، حب الوطن، وحب الحرية. هذا التنوع يتيح للشعراء معالجة مواضيع أكثر شمولية وتقديم رؤية جديدة للحب والحياة.
وقد امتاز أسلوب الشاعر سعدي يوسف بالجرأة والصراحة في التعبير، واستخدم صورًا حية ومباشرة لتصوير المشاعر. في قصائده، حينما يعبر عن الحب بكل أبعاده، مشيرًا إلى الصراعات والأحاسيس المتناقضة. ونذكر مثال ذلك نص( في سوق المصلّى)
3- التجريب في اللغة وتجديد الأسلوب: يتسم الغزل في قصيدة النثر باستخدام لغة حديثة وتجريبية. يعتمد فيها الشعراء على الصور الشعرية المكثفة والاستعارات غير التقليدية، مما يضيف عمقًا وجمالًا للقصيدة.
باستخدام لغة حديثة تبنى الشعراء الحداثة والتجريبية، مما سمح لهم بابتكار صور شعرية جديدة وفريدة أشرقت في تجربة شعراء مميزين مثل أسعد الجبوري الذي يعيد تشكيل اللغة بشكل شاعري مكثف تعبر فيها عن الحب بشكل فلسفي وعميق،
مثل طابع يد
يضع على باب حديقتكِ شمسًا
وينتحلُ للحبّ من الأساطير أسباب الغرام.
وبعد الحروب يمزج بين العذري والجريء، ويتناول في قصائده مواضيع الحب الوجودي والروحاني، مشيرًا إلى تعقيدات العلاقة العاطفية. من أبرز قصائده التي تتناول الحب في مجموعاته:
"أشعر الشرس": تتناول الحب كرحلة روحية ووجودية.
"مابعد الكتاب": تعبر عن الشوق والحنين بأسلوب شاعري مكثف.
"أولمبياد اللغة": تدمج بين العذري والجريء، وتصف الحب كتجربة معقدة ومتناقضة.
فمٌ مخلٌّ بالنظام
كلّ شَفة صيدليّةٌ مشبعةٌ بترياق
ذلك ما ستدركهُ بعد مد وجزر في ليلة فيضان.
4- تأثير ثقافي واجتماعي
-التفاعل مع الجمهور: قصيدة النثر، بلغتها القريبة من الحياة اليومية، جعلت الشاعر أكثر قربًا من الجمهور، مما ساهم في زيادة شعبية الشعر.
التأثير المتبادل: استلهم الشعراء الجدد من التجارب العالمية والمحلية، مما أدى إلى تفاعل ثقافي غني ومتبادل.
هذه النماذج من الشعراء تعكس التنوع في التعبير عن الحب في قصيدة النثر الحديثة، حيث يتم الجمع بين العذري والجريء لتقديم رؤى جديدة ومعقدة للعاطفة الإنسانية.
وقد ساهم هذا التحول في إثراء الساحة الأدبية بدماء جديدة وأفكار مبتكرة، مما يؤكد على أهمية الشعر كوسيلة فعالة للتعبير عن التعقيدات الحديثة وتجارب الحياة المتنوعة.

